حنان عقيل*
يعد حميد لحمداني، أحد أبرز الوجوه النقديّة في المغرب، لما يقدّمه من جهود ثريّة في مجال الإبداع والنقد، ونقد النقد، في وقت تزايدت فيه ملامح التباين في تقدير هذه المجالات، وحجم التداخل بينها، كما يتعرض النقاد لاتهامات تتعلق بمواقفهم وانحيازاتهم المسبقة.. وفي هذا الحوار تحدث عن جهوده وإسهاماته النقديّة البارزة.
يؤكد الناقد حميد لحمداني، أن اهتمامه بالنقد كان اختيارا أكاديميا بالدرجة الأولى، ويعبر عن ميول إلى تنمية معرفته بالمناهج النقدية التي كانت وضعيتُها في السبعينات وبداية الثمانينات من القرن الماضي يلفها بعضُ الغموض، وكان السؤال المطروح ما هي أصلح المناهج لدراسة الأدب محوريا ومُحيِّرا، وهو ما قاده إلى الاهتمام بالنقد الأدبي، ثم بدأ يشتغل في حقل نقد النقد، وهو مجال معرفة المعرفة.
ويوضح ، أن العلاقة بين تخصصه النقدي وإبداعاته برزت لاحقا في روايته “رحلة خارج الطريق السيار”، وأفاده النقد البنيوي المتخصص في معالجة الحيل السردية، وبلورة إمكانياته الإبداعية وتطويرها، وتجلى ذلك في هذه الرواية بالذات التي حازت على جائزة الرواية العربية بالأردن، وأشارت لجنة التحكيم وبعض النقاد الذين قاموا
بتحليلها إلى الجانب التحديثي للبنية الروائية فيها، خاصة مظهر التقطيع الزمني والتشطير السردي، وتعدد زوايا النظر، إلى جانب حضور البعد الترميزي.
ضرورة المنهج
تنقّل لحمداني في دراساته النقدية بين عدد من المراحل من النقد السوسيولجي إلى النقد الأسلوبي، ثم الاهتمام بنظريات التأويل، وأخيرًا الجمع بين المناهج المتنوعة.
ويقول إنه ليس من اليسير استيعاب الاتجاهات النقدية ولا التفوق في تطبيقها إذا لم تكن لمن يقوم بتحليل النصوص معرفةٌ منهجية تؤهله للقيام بهذه المهمة.
ويضيف أن معظم المعارف التي مكَّنت النقاد من هذا التأهيل مُستمدة من مجموعة من العلوم الإنسانية، وغالبيتها تم دمجُها ضمنيا في نطاق السيميائيات المعاصرة المعتمِدة على أرضية لسانية تقتضي الرجوع الدائم في كل اجتهاد تحليلي للنصوص أو أي تأويل لمعطياتها، إلى ضرورة إثبات ذلك عيانيا من خلال العلامات اللسانية الشكلية ووحدات المحتوى الدلالية.
ويشير إلى أن استخدام المناهج في تحليل الأدب، عمل مُستنير ومعرفي، بعيدٌ عن الإسقاطات الذاتية أو الميل مع الأهواء والتسيُّب في التحليل، وإذا جعلنا الأذواق الذاتية كافية لمعالجة النصوص الأدبية سيَعتبِرُ كلُّ قارئ عادي نفسَه في مستوى كل من كابد المحن في تحصيل المعارف المنهجية.
ويلفت إلى أن هذا “عين الدعوة إلى الشعبوية في التفكير والسلوك، والتي تعتمد مبدأ أن غير العارف مُساو للعارف في المؤهلات، إن لم يتم الادعاء بأنه متفوقٌ عليه، وهذه بلية لا تَسود عادة إلا في المراحل التاريخية التي تَظهر فيها علامات الانحدار الحضاري لدى شَعبٍ ما”.
ويذكر أنه ليس من المُهم في دراسة الأدب أن نقول هذا النص رائع أو غير مسبوق، بل ينبغي إثبات ذلك بالتحليل والمعاينة، وليس من السهل أن نقول مثلا بأن مدلول هذه الحكاية هو كذا أو كذا، لكن أن نُثبت بالمعاينة والإقناع الحِجاجي والمنطقي أو الترجيحي بأن هذا النص يوجهنا نحو هذا التأويل أو ذاك الفهم.
ولا يكون ذلك في نظره مُنحصرا بالضرورة في تطبيق مَنهج مُحدد بحذافيره، فالمعارف المنهجية متداخلة ومُتطورة على الدوام في هذا الاتجاه، وإمكانياتُ الدمج بينها مُثبتةٌ سيميائيا، لا توجد خارج هذا الإطار المعرفي إلا معالم نقض المعرفة والارتجال والادعاء والغموض والأحكام العامة، وأحيانا المبالغة والتيهان في البحث عن الأنساق المضمرة، وتسهل هذه المسألة تعمد تبخيس جهود النقاد الذين نذروا حياتهم لاكتساب المعارف المنهجية.
وما شرحه لحمداني حتى الآن يُبين نظير ما سلكه في أعماله النقدية الأدبية الخاصة، فشِعارها التطوير الدائم للمناهج، وإحداث إمكانيات مُستمرة لتفاعلٍ سيميائي بينها، وهذا يناقض ما يُدعى بالنقد التكاملي الذي يقوم على أساسٍ تلفيقي.أما إحداث التفاعل بين بعض المناهج أثناء التحليل فيكون مشروطا قبل الشروع في ممارسة تحليل الأعمال الأدبية باستيعاب الناقد للمعارف المتعددة، التاريخية والسوسيولوجية والنفسية والبنيوية والسيميولوجية، وهذه مُهمة صعبة لا تقوم إلا على غزارة الاطلاع والتحصيل.
النقد الموضوعاتي
يعتبر لحمداني في كتابه “سحر الموضوع”، أن النقد الموضوعاتي بدرجة ما شكّل نواة للنقد الثقافي، وفي هذا يُبين أنه عندما درس أصوله المعرفية تبيّن له أنه في عمقه ليس منهجا مُحددا، فمبادئه شديدةُ العمومية، لأنه يلتقط في تحليلاته كل الموضوعات والثيمات، كما أنه مُنفلت العقال في تجواله عبر النصوص وخارج النصوص على السواء مُجمِّعا، في غير نظام مُحدد.
ويؤكد في حديثه، أن كل إمكانيات المناهج الأخرى، بما في ذلك ما هو خارج عن المناهج كالتذوق والمهارات الذاتية، مبدأه الأساسي هو الحرية التامة في الحركة من النص إلى المعارف المختلفة، وهذه الخصائص تلتقي مع النقد الثقافي الذي يَعتبر النص الأدبي مجرد ذريعة لاكتشاف أنساق خارج نصية مُتحكِّمة في الإنسان.
ويتابع الفارق الأساسي بينهما هو أن النقد الموضوعاتي يحترم أدبية الأدب ودور الأدب الفاعل في حياة المبدعين والمجتمع، على عكس النقد الثقافي الذي لا يهتم بالأدب في حد ذاته، وأحيانا لا يكن له تقديرا، وإنما ينظر إليه كظاهرة ليس لها من وظيفة إبداعية ودلالية ذات قيمة سوى ما تكون دالة عليه من أنساق رمزية تتحكم في المبدع وغيره من أفراد المجتمع، ما يجعلُ النقد الثقافي منشغلا بالبحث عن علامات تلك الأنساق الخارجية أكثر مما يَعتبر الأدب إبداعا متعدد الوظائف الإيجابية بالنسبة للمبدعين والقراء.
وعن بروز النقد الثقافي والدعوة إلى استبداله بالأدبي، يقول لحمداني “من الضروري القول بأن الأدب في معظم الأبحاث الغربية والدراسات العربية المُنتمية إلى النقد الثقافي يعتبر ظاهرة شاذة، يُجرِّبها الأدباء على أساس أنهم يبدعون شيئا مفيدا لهم ولمجتمعاتهم، لكن واقع الحال أنهم من وجهة المنظرين للنقد الثقافي والتفكيكيين هم ضحايا غير واعين بأنهم يعززون الأنساق الفكرية والثقافية التي تكون عادة مُدعَّمة من قبل مراكز سلطوية في المجتمع”.
ويرى أن مثل هذا التصور ليس جديدا، فهو مشروح في الكلاسيكيات الثقافية للمناهج السوسيولوجية الجدلية، وبرغم إثباتها ارتباط الأدب بالأيديولوجيات والسلطة فإنها أكدت أن الأدب يَحتفظُ بسلطته التأثيرية وقدرته على خِدمة الثقافة التي يُعبر عنها والتي تتفاوت قيمها بين شريحة اجتماعية أو أخرى، بمعنى أن الأدب في المجتمع ليس خاضعا في كليته لسلطة واحدة، بحيث لا يكون له أيُّ دور إيجابي في انتقاد الواقع.
وهذا على عكس تصور النقد الثقافي الذي ينظر إلى السلطة كنسق واحد في أي واقع اجتماعي على أنها ذات هيمنة تامة على الكل، ولا يفلت من إخضاعها نتاج أدبي مهما كانت قيمته الإبداعية وأفكار وانتقادات جريئة وتحليلات جديدة.
ويوضح لحمداني أن واقع الحال يخالف هذا التصور، فحينما تُصادَرُ بعضُ الأعمال الأدبية، بحجة أنها تمثل تشويشا على هيمنة النسق المهيمن فهذا يعني أن النسق لا يتحكم في جميع الأعمال الأدبية، ويترتب عن ذلك أن للأدب سُلطتَه الخاصة التي تنجح أحيانا في الانفلات من تحكم الأنساق الرمزية، وهذا ما لا يعترف به بعضُ النقاد بسبب أن لهم منظورا واحدا عاما ومُطلقا، ويستبعدون حوارية وجدلية الأفكار التي تُساهم في إثرائها الأعمالُ الأدبية، ولها دور في انتقاد سلطة أو تعزيز أخرى.
ويعتقد أن مشكلة منظور النقد الثقافي عسيرة التجاوز إذا لم يَعترف نُقاده بأن للأدب دورا فَعالا في حياة الإنسان ومساهمةً مؤثرة في تطوير المُجتمعات.
النقد الرقمي
كتب لحمداني العديد من الأعمال في مجال نقد النقد متعرضًا للحديث عن التطبيقات النقدية لعدد من المناهج مثل البنيوية والموضوعاتية والنقد التاريخي والنفساني.
ويقول حميد لحمداني، ليس هناك ضرورة مُلحَّة تجعلُ النقد الأدبي الأكاديمي والمتخصص ينشغلان بالكتابة الأدبية الرقمية، فلم تُبرهن الكتابةُ الرقمية حتى الآن مُمَثَّلةً بنموذجها المشهور في العالم العربي وهو: رواية “شات” لمؤلفها الأردني محمد سناجلة، عن قدرتها على الاستمرارية أو إغراء مؤلفين آخرين باحتذائها لتحقيق تراكم يؤسس لنوع أدبي راسخ الحضور.
وسبب هذا التعثر راجعٌ إلى الاعتماد على آلية النص التشعبي التي لا تقف عند استخدام اللغة بل تتعدى ذلك إلى الصورة والحركة والصوت والحوار والتنقل افتراضيا عبر المواقع التواصلية، وتقتضي المُغامرة التأليفية في هذا النمط الرقمي امتلاك معارف أخرى متعددة غير الموهبة الأدبية، مثل البرمجة والإخراج الإلكتروني وشبه السينمائي، مع توفر خبرات دقيقة في الصوت والصورة والإضاءة.