سليم البيك*
الخلط لدى مشاهدي أفلام الفرنسي فرانسوا تروفو في بدايات تعرفهم إليه، بينه وبين الممثل جان بيير ليو، لا يقتصر عليهم كمشاهدين متلقين من بعيد (كعربٍ مثلاً) رأوا وجهين متشابهين، ونتيجة لهذا التشابه، هي شخصية أنطوان دوانيل، التي كتبها وأخرجها الأول وأداها الأخير.
طال الخلط كذلك مشاهدين «محليين» في باريس، وتحديداً في بار يدخله تروفو لأول مرة، فيراه الساقي ويقول: «هذا أنت، أعرفك، رأيتك بالأمس على التلفزيون». وكان ما شاهده الساقي مقطعاً من فيلم «قبلات مسروقة» أحد أفلام سلسلة أنطوان دوانيل التي أداها جان بيير ليو. يذكر فرانسوا تروفو الحادثة في كتابه الذي يحكي فيه عن شغله السينمائي «تروفو من قِبل تروفو» (Truffaut par Truffaut) وتحت عنوان «أنطوان دوانيل، أنا، وقريني».
تروفو الذي أراد – كما ذكر في الكتاب ذاته- من خلال كتابة وتصوير شخصية أنطوان دوانيل، أن يأتي بـ«سيرة شخصية غير كاشفة بشكل كبير وغير مباشرة بشكل كبير» ذكر كذلك أن أنطوان دوانيل هو مزج بينه وبين جان بيار ليو، الذي – كما قال في مقابلة تلفزيونية – يفكر به حين يكتب أفلامه، كما يفكر بأمرين آخرين لا بد من تلاقي ثلاثتها كي يخرج أخيراً بالفيلم، هما كتاب قرأه وأجواء أراد إظهارها (ولكليهما أثره في حبك الخيال الذاتي) ويكتب في موقع آخر أن أنطوان دوانيل هو الشخصية التخييلية المازجة بين شخصيتين حقيقيتين: هو وجان بيير ليو.
هذا كله يحيلنا إلى العلاقة في واحدة من أهم التجارب السينمائية في السيرة الذاتية الخيالية (البعض يسميها التخييل الذاتي، وأحب تسميتها بالخيال الذاتي) إذ لا تكون صافية، لا تكون نهائية، وتروفو ذاته يحكي أن فيلمه متى خرج إلى الصالة انفصل عنه وصار هو مشاهداً كغيره. هي إذن، متى خرجت، صارت أعمالاً فنية تحكي سيرة شخصيتها الأساسية بمعزل عن مبتكرها، وإن كان الحديث عن مرجعياتها كقصص حياتية لصانعها، كثيراً، وإن كانت نقاط الالتقاء بين المبتكِر والمبتكَر كثيرةً. صنع تروفو سيرته من خلال خلق سيرة أخرى، ممزوجة بتروفو وبآخر، يخلط الناس (حتى الباريسيون) بينهما، فلا تكون السيرة خالصة حتى في حقيقيتها، فكيف وإن أتت خيالية حيث الاحتمالات لا تنفد؟ وكيف لو اعتمدت على كتاب وأجواء خارجية؟
أخرج تروفو الفيلم الأول من السلسلة عام 1959، وكان «الخمسمئة ضربة» (Les Quatre-cents coups) وفيه قدم شخصية أنطوان دوانيل، إنما بدون فكرة أن يصير الفيلم افتتاحية لسلسلة أفلام لاحقة. هو أحد أفضل أفلامه، وإحدى أيقونات «الموجة الجديدة» الفرنسية، وفيه يحكي تروفو عن طفولته، هروبه من المدرسة وعلاقته المتأزمة مع أمه. خلق تروفو في هذا الفيلم الألترإيغو له، أو القرين، (آخَره، أناه الأخرى).
يعود بعدها بفيلم قصير (باقي الأفلام طويلة) عام 1962 هو «أنطوان وكوليت» (Antoine et Colette) فكبر أنطوان، الطفل صار يافعاً، استقل في عمله، في متجر اسطوانات، وفي مسكنه. ويقع أخيراً في الحب. يليه عام 1968 «قبلات مسروقة» (Baisers volés) فيه ينهي أنطوان خدمته العسكرية، ويعود إلى باريس باحثاً عن عمل، يمر بمشاكل مع حبيبته كريستين، يجد عملاً كمتحر خاص، يطلب يد كريستين للزواج. يليه عام 1970 «منزل الزوجية» (Domicile conjugal) وفيه أنطوان وكريستين، زوجان هانئان، يعمل هو في بيع الزهور، وتعطي هي دروساً في عزف الكمان، يجد عملاً آخر وامرأة أخرى، تكشف زوجته أمر عشيقته وتتركه.
يليه عام 1979«الحب الهارب» (L’Amour en fuite) وفيه يجد أنطوان (الذي صار روائياً) عشيقة جديدة هي سابين، بدون أن يتحرر من حبه لكريستين، وفي هذا الفيلم الأخير من السلسلة، تظهر له كوليت كذلك، حبه الأول، فتلتقي به صدفة أثناء طلاقه من كريستين، تشتري روايته وتقرأها، وهي خيال مبني على سيرة شخصية، تجد نفسها، تجدهما، فيها، بتفاصيل علاقتهما القديمة. كأن الرواية التي كتبها أنطوان دوانيل هي حكاية هذه الأفلام، وكلها سيرة متخيلة أو روائية له (أو لتروفو).
صنع تروفو هذه السلسلة على طول مسيرته السينمائية، وقد تخللتها جميعها أفلام أخرى لا علاقة لها بها، وهي كذلك تحفٌ فنية أضافت إلى مكانة تروفو السينمائية، بمعزل عن سلسلة أنطوان دوانيل التي كانت أساس الهوية والمنجَز السينمائي لتروفو، وأي حديث جدي عن الخيال الذاتي، عن السيرة الروائية، عن ابتكار الفنان لقرينه، لأناه الأخرى، أو مهما كانت التسميات، أدباً وسينما، سيمرّ بشخصية أنطوان دوانيل، التي لم يبنها تروفو – كما قال – على ذاته وحسب، والتي كذلك انفصلت عن ذاته متى استقلت في فيلم يشاهده العالم، فالخيال هو الغالب.