"جمعية الموتى".. جاك السفَّاح في مراكش

2020-08-10

سعيدة روّاس وغلاف روايتها "جمعية الموتى"

نجيب مبارك

يتقاطع عنوان رواية "جمعية الموتى" (أمبرس بوكس، 2017)، للكاتبة المغربية- الإنكليزية الشابّة سعيدة روّاس، مع اسم أقدم وأشهر ساحة في مراكش والمغرب قاطبة، وهي ساحة "جامع الفنا"، الذي نقرأ بين معانيه "المكان الذي يجتمع فيه الناس" من جهة، و"الفناء" أو "نهاية العالم" من جهة أخرى، كما قيل أيضًا أنّها سُمّيت بـ"الفناء" نسبة إلى فناء الجامع أو المسجد، أو لأنّها كانت ساحة لتنفيذ الإعدام في المجرمين قديمًا. وربّما كان هذا الاختيار مقصودًا، لأنّ العنوان يحيل على فضاء الرواية، أي مدينة مراكش، وعلى أحداث تاريخية حقيقية في آن واحد. إذ تعود أحداث هذه الرواية بالقارئ إلى بداية القرن العشرين، وبالضّبط إلى سنة 1906، حيث كان المغرب يعيش تحت وطأة عدم الاستقرار الداخلي، وتزايد أطماع الدّول الاستعمارية، وتغلغل النّفوذ الأوروبي في البلاد، لتحكي قصّة أشهر سفاح عرفته مراكش عبر التاريخ، وهو "الحاج المسفيوي"، الّذي اختطف وقتل 36 مراهقة وشابّة ومثَّل بجثثهن، فأثار الرّعب والهلع بين سكّان المدينة الحمراء بشكلِ غير مسبوق.

قصة أشهر سفّاح في مراكش

حسب المصادر التاريخية، توالت في مدينة مراكش خلال شهر نيسان/ أبريل من سنة 1906 حوادث اختفاء عددٍ كبير من الفتيات المراهقات والشابات، بحيث عجزت السلطات عن فكّ لغزها طويلًا، واكتفت بالحديث عن سفَّاح غامض تناسلت حوله الحكايات والأساطير. وأمام العجز التامّ للسلطة المخزنية، قرّر أهلُ إحدى الفتيات المختطفات التحرّك بشكل مستقلّ، ومباشرة البحث عن الفاعل بأنفسهم. وبعد البحث والاستقصاء، وصلوا إلى آخر من شوهدت الفتاة برفقتها، وهي امرأة عجوز تجاوزت السبعين من العمر، فقاموا باختطافها وتعذيبها لتعترف بمشاركتها في جريمة اختطاف وقتل وتقطيع جثّة الفتاة، بعد إرغامها على شرب مخدّر بدكّان الحاج المسفيوي، وهو رجل كان يعمل في الأصل إسكافيًّا، لكنّه أيضًا كان كاتبًا عموميًا يدبّج الرسائل والشكاوى.

وبعد اعتراف العجوز بمسؤولية الحاج المسفيوي عن تلك الجرائم، ستعتقل السلطة الحاج وشريكته وتقدّمهما للمحاكمة.

سيتعرّض الحاج المسفيوي وشريكته لشتّى أنواع التعذيب، ليعترف أخيرًا بجرائمه المتسلسلة، أي قتله 36 مراهقة وشابة، وذلك بهدف السّرقة.

كان يعمد لتخدير ضحاياه بمشروب خاصّ، قبل أن يقتلهن ويقطع رؤوسهن ويدفنهن. وفعلًا، سيتمّ العثور على 20 جثّة مقطوعة الرأس في قعر بئر بدكّان المسفيوي، و16 جثّة مدفونة في حديقة بيته المجاور للدكّان. وأمام غضب المراكشيين العارم، سيصدرُ حكمٌ عرفيّ على الحاج المسفيوي يقضي بإعدامه صلبًا. لكن التمثيليات الدبلوماسية المتواجدة بالمغرب آنذاك، والّتي كان نفوذها القويّ يتعاظم يومًا بعد يوم، سترفض هذا الحكم بدعوى همجيّته المرفوضة، ليتمّ تعويضه بالموت شنقًا.

وهو حكم لن يتأخّر "المخزن" (السلطة الحاكمة) في تنفيذه، حيث سيتعرّض المسفيوي لسلسلة طويلة من التعذيب، عبر حصصٍ يومية من الجَلد بالسّياط أمام الملأ، ليُختم بعشر ضربات من عصا مسنّنة بالمسامير، يُفرض خلالها على القاتل أن يعدُّها بنفسه، وكان الهدف من ذلك طبعًا هو إرضاء أهالي الضحايا والسكّان الغاضبين، لينتهي الأمر بسفَّاح مراكش بأن يُدفن حيًّا ويُبنى عليه وقوفًا.

رواية تاريخية بطعم الغموض والإثارة

في رواية "جمعية الموتى"، تتخيَّل سعيدة روّاس مسارًا روائيًّا مختلفًا للتحقيق في هذه الجرائم. إذ تنطلق من فرضية أنّه أمام غموض حوادث الاختفاء المتكرّرة، الّتي مثّلت فرصةً ذهبية للسلطة الضعيفة لتصرف انتباه السكّان عن إرهاصات التدخّل الاستعماري في البلاد، سيأمر سلطان المغرب بإيفاد محقّق خاص من مدينة طنجة لحلّ لغز هذه الاختفاءات الغامضة والمساعدة في القبض على المجرم. هكذا، سيصل المحقّق فاروق العلمي إلى مراكش، المدينة المحاصرة بالخوف والمجاعة، ويقيم في "فندق" صغير، وهو نزل تقليديّ في المدينة القديمة، ينزل فيه العابرون والغرباء اليائسون. يمثّل فاروق نموذج المحقّق الفطن والمثقف، الذي يثق في حدوسه وفضوله الكبير، إذ سبق له أن تلقّى تعليمًا في أوروبا، وفي مدينة لندن تحديدًا، وتدرّب على أحدث أساليب التحرّي والتحقيق البوليسي، وسرعان ما سيكتشف تشابهًا بين سلسلة الجرائم التي ارتكبها سفَّاح مراكش مع جرائم القاتل الإنكليزي الشهير "جاك السفَّاح"، الذي أرعب سكّان لندن سنة 1888 وعجزت الشرطة البريطانية عن اكتشاف هويته الغامضة لعقود طويلة، فيقرّر أن يبذل كلّ طاقته للوصول إلى الحقيقة. لكن، بعد فترة وجيزة، صار حضور فاروق إلى مراكش غير مرغوب فيه من طرف الجميع، ولم يتلقّ مساعدة تُذكر من السكّان المحليين. إنّه يتقدّم في التحقيق بالتدريج، بينما لم يتوقّف اختفاء الفتيات مع مرور الوقت، علمًا أنّه في تلك الفترة لم يكن المغرب يملك جهاز شرطة (كان القاضي الشّرعي هو من يباشر التّحقيق)، ولا عهد له بالتحقيقات البوليسية العميقة، ورغم ذلك سيلجأ فاروق إلى طلب المساعدة من يوسف المهدي، أحد ممثّلي السلطة المحلّية الذي يفضّل انتزاع الاعترافات من المشتبه فيهم عن طريق التّعذيب، وأيضًا من طبيب فرنسي كان من أوائل من مارسوا الطبّ في المدينة الّتي صارت تشعر بالتهديد أكثر فأكثر.

 

"قبل شهرين تقريبًا، أعلنت سعيدة روّاس أنّ رواية "جمعية الموتى" ستُنقل قريبًا إلى السينما، بعد أن تحمّس المنتج الأميركي رونالد لي كار لتحويلها إلى فيلم أو مسلسل قصير. وإذا تحقّق هذا المشروع، ستكون "جمعية الموتى" أوّل رواية مغربية في التاريخ تقتحم أسوار هوليوود".

سيواجه فاروق الكثير من الصّعاب في هذا التحقيق، أبرزها عادات وتقاليد السكان، ونظرتهم الدّونية إلى المرأة خلال تلك الفترة. فبالنسبة لآباء الفتيات المختطفات، يمثّل الاعتراف باختفاء إحدى بناتهم اعترافًا بالعار الّذي جلبته البنت للعائلة.

في هذا السياق، يمكن النّظر إلى رواية "جمعية الموتى" كمرافعة تاريخية للدفاع عن وضعية المرأة المغربية خلال الأعوام التي مهّدت لدخول الحماية الأجنبية.

 إذ تُدمج سعيدة روّاس ببراعة شديدة أحداث الرواية بوقائع التاريخ والسياق السياسي والاجتماعي للبلاد، من خلال رصد الحياة اليومية في مراكش (العلاقات الأسرية، المأكل، الدين، التجارة، السلطة...) وترسم صورة للهرميّة الاجتماعية السّائدة آنذاك.

 كما أن السّياق السياسي المضطرب يحضر من خلال تطوّر العلاقة بين الشخصية الرئيسية، المحقّق فاروق العلمي، وممثّل السلطة يوسف المهدي من جهة، والطبيب الفرنسي من جهة أخرى.

إنّ "جمعية الموتى" رواية تاريخية بطعم الغموض والإثارة، تُشبه النّظر من ثقب مفتاح الباب إلى أوضاع المغرب في مطلع القرن الماضي.

 إذ تنجح الروائية في أن تنقل القارئ من الحاضر إلى الماضي، ليعيش فصولًا مشوّقة في "مدينة البهجة"، بأزقتها ودروبها وأسواقها الساحرة، بحيث تصله رائحة القرفة والزعفران والفلفل الحارّ المنبعثة من المتاجر، ويسمع صوت عربات الحمير وهي تنقل البضائع من حارة إلى أخرى.

أوّل رواية مغربية تقتحم هوليوود؟

قبل شهرين تقريبًا، أعلنت سعيدة روّاس أنّ رواية "جمعية الموتى" ستُنقل قريبًا إلى السينما، بعد أن تحمّس المنتج الأميركي رونالد لي كار لتحويلها إلى فيلم أو مسلسل قصير. وإذا تحقّق هذا المشروع، ستكون "جمعية الموتى" أوّل رواية مغربية في التاريخ تقتحم أسوار هوليوود. ففي بداية هذا العام، حين كان المنتج رونالد لي كار بصدد التحضير لفيلمه الطويل الجديد "رائحة ابنتي"، وهو من إنتاج فرنسي- تركي، علم أنّ حقوق طبع ونشر هذه الرواية لا تزال متاحة، فقرّر شراءها وإنتاج الفيلم بلا تردّد. يقول: "لقد أغرتني الرواية بمجرّد نشرها، ولكن في ذلك الوقت، كان لديّ الكثير من المشاريع الأخرى قيد التنفيذ". أمّا الروائية، فصرَّحت من جهتها: "أنا متحمّسة جدًّا لأن تصبح "جمعية الموتى" فيلمًا أو مسلسلًا قصيرًا. لقد استحوذت قصّة جاك السفَّاح وضحاياه من النساء على مخيّلتي لبعض الوقت، وكذلك قصّة المغرب في أوائل القرن العشرين. آملُ أن ينقل هذا المشروع للجمهور الواسع فترةً من التاريخ، تقع أحداثها في شوارع مراكش الخلفيّة".

كرَّست سعيدة روّاس سنتين كاملتين لإنجاز هذه الرواية، وخمسة أشهر من الإقامة في المدينة القديمة بمراكش، لاستلهام الفضاء الذي تجري فيه الأحداث، وهو فضاء لم يطرأ عليه تغيير كبير منذ أزيد من قرن. في حوار لها مع مجلة "إيسترن آي" الهندية، قالت إنّ فكرة الخوض في الكتابة عن عالم القتلة المتسلسلين، جاءت بالصدفة لدى اطّلاعها على مقالٍ صحافي، يروي قصّة حقيقية بطلها قاتل متسلسل، كان يترصّد ضحاياه من الفتيات في أزقّة مراكش سنة 1906، والتي تشبه في عددٍ من تفاصيلها قصّة "جاك السفَّاح"، القاتل المتسلسل الشهير الذي اختطف وقتل عددًا من بائعات الهوى بلندن سنة 1888 دون أن يتمّ أبدًا التعرُّف على هويته.

 كما أنّها درست فصولًا كاملة عن تاريخ المغرب، التي ترصد لحظة ما قبل الحماية الفرنسية، حيث عرفت هذه الفترة مجموعة من التطوُّرات الاجتماعية والسياسية الهامّة، إلى جانب بعض الظروف القاسية، كالمجاعات والجفاف وانعدام الأمن، أفرزت جميعها شخصيّة "سفَّاح مراكش"، القاتل الانطوائيّ وغير المتوازن الذي جعل من قتل النساء عمله اليومي.

ثلاثية عن تاريخ المغرب الحديث

 وُلدت سعيدة روّاس في لندن، وهي تنحدر من عائلة هاجرت من مدينة العرائش (شمال المغرب) للعيش في إنكلترا خلال الستينيات. اشتغلت في بداية حياتها مرشدة ثمّ مديرة مشاريع بعدد من الدول مثل: ماليزيا، سلطنة عمان، الكويت، تونس وأثيوبيا، قبل أن تتفرّغ للكتابة منذ سنة 2014.

 

"تنجح الروائية في أن تنقل القارئ من الحاضر إلى الماضي، ليعيش فصولًا مشوّقة في "مدينة البهجة"، بأزقتها ودروبها وأسواقها الساحرة، بحيث تصله رائحة القرفة والزعفران والفلفل الحارّ المنبعثة من المتاجر"

ومن أهمّ أعمالها: "18 يوماً من الربيع في فصل الشتاء"، الصادر سنة 2015، وهي رواية تحكي قصّة طالبة مصرية خلال بداية الربيع العربي. ثمّ أصدرت بعدها "طريق الحكمة" سنة 2016. ومن المنتظر أن تُصدر قريبًا جزءًا ثانيًا من "ثلاثية فاروق العلمي"، سيحمل عنوان "مكتبة القرويين"، يحكي هذه المرّة قصّة قاتل مغربي آخر باسم "سفَّاح القرويين"، وقد عاش بمدينة فاس سنة 2012 مع بداية الحماية الفرنسية، ثمّ ستُتبعه بجزءٍ ثالث، بعنوان "قافلة اليأس"، سيتناول جرائم سفّاحٍ آخر عرفته مدينة شفشاون خلال اندلاع ثورة الريف على الاستعمار الاسباني سنة 1921.

وبهذا يكتمل مشروع هذه الروائية الطموح، الذي يغوص في لحظات مفصلية من تاريخ المغرب في مطلع القرن الماضي، من خلال التركيز على لحظة ما قبل الاستعمار، ثمّ لحظة فرض الحماية الفرنسية على وسط البلاد، وأخيرًا لحظة إعلان المقاومة البطولية لأبناء الريف ضد الاستعمار الاسباني في الشمال.

في الختام، يمكن القول إنّ رواية "جمعية الموتى" تضع سعيدة رواس بين أهمّ الأسماء النسائية الصاعدة في الأدب المغربي المكتوب بالإنكليزية، وهي أسماء قليلة ونادرة على كلّ حال مقارنة بالإبداع العربي والفرنكفوني، إلى جانب روائية أخرى لا تقلّ أهمية، هي الكاتبة الّلامعة ليلى العلمي المقيمة في أميركا، والتي أصدرت أعمالًا أدبية رفيعة بلغة شكسبير، أشهرها رواية "ما رواه المغربي" المترجمة حديثًا إلى العربية، إذ رُشّحت روايتها "طفل سرّي" للفوز بجائزة أورانج سنة 2009، بينما رُشّحت روايتها "الأميركيون الآخرون" مؤخّرًا للتنافس ضمن القائمة النهائية للجائزة الوطنية الأميركية للكتاب لسنة 2019.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي