الخيلُ والليل…

2020-06-06

نضال القاسم*

أنا ظلُّك البهيُّ يا أبي العاطِفيّ كظلِّ سَحابهْ

أنا غُبارُ الطلع، ورْدةُ الصّباح، رفاقك الشهداء، رائحةُ القمحِ والبرتقال

أنا المدُّ والجزرُ والخيلُ والليلُ، رائحةُ الفُّلِ والبحر، دهشةُ الفراغ

أنا طيفك المخبوء يا أبي في بركةِ النسيانِ

أنا جدارُ بيتنا المَرمَريّ القديم

أنا الحقيقةُ والسرابْ

أنا الخاتمُ الذي أضَعْتَهُ في الرَّملِ خلف المتاريس في المنحدر

غزالكُ الأبيضُ المذبوحِ قرب التلِّ حيَثُ الرُّعاةُ يَسوقونَ قُطعانَهُمْ في الهضاب

حصانك الفضيَّ يا أبي أنا

حصانك المُجَنَّحُ الذي أضاع الدرب على خطوط النار

حصانك الذي اختفى وغابْ

أنا أبي الجديدُ في خيال التائهين

أنا العطورُ والظلالُ والألوانْ

أنا الحضورُ

أنا الغيابْ

حكايةُ المنفى أنا بعد دهرٍ من الثُكلِ والاحتضار واللَّعنة الجامحة

صورتك الجديدة في الجِهات التي لا جهاتَ لها

وصوتك الغزيرُ في هدأة الليلِ بين الحقيقةِ والحلمِ

صوتك الذي اختفى وذاب

صوتك الذي يملأ البيت بالميجنا والعتابا وترتجُّ منه القلوب

صورتك المضيئة في فضاء الصهيل بعينين ذابلتين على رصيف الحلم

ارتعاشةُ قلبك في عتمة الليلِ إذ يتعالى به النبضُ على غصون الانتظار

أسرارنا العائلية،

أوراقُ أختي ومريولها المدرسيُّ، الملاءاتُ فوق الأسرَّةِ، رائحةُ البخّورِ، بردُ الشتاء، السجائرُ والشايُ، مدفأةُ الكاز والكستناء، حميميّة الأهل والأصدقاء،

صوتُ الإذاعة والصورُ الغائبة، ساعةُ الحائط المستديرة، دفءُ المكانِ، ثرثرةُ الكلام،

تضاريسُ وجهك حين أمي تغني الأغاني القديمة:

(جملنا يابو نضال

جملنا منومِسْ الرَاس

يلّلي قهوتك بِتْصُب

وفناجينك بين الناس

جملنا يابو نضال

جملنا يا قاعوده

يلّلي قهوتك بتصبّ

وفناجينك ممدودة

جملنا يا ابو نضال

جملنا يا نوارة

يللي قهوتك بتصب

وفناجينك دوّاره)

أبي، يا أميرَ التعب

يا أبي الصاعدُ في دمي كالشُّعاعِ المُقدَّسِ

يا أبي الصاعدُ في دمي كأعاصيرُ الفصول

يا أبي الصاعدُ في دمي كالعاصفة

يا أبي الصاعدُ في دمي كاللهب

يا أبي الصاعدُ في دمي كالنسيم الصباحي أو كالزَّوبَعَة

يا أبي المحاصرُ بانكسار الأصدقاء وطعنات الخفاء والأحبة الذين غادروا

يا أبي الحزينُ كأَعجاز نخلٍ خَوتْ في اليبابْ

يا أبي المُضطرِبْ، كعتمةِ الصباحِ أو صَوتُ اللّهبْ

كلانا يئنُّ كنسرٍ جريحٍ، أغثني، يا أبي أغثني، أغثني يا أبي

فأنت لن تصدَّني

فأنا انتظرتك من نصف قرنٍ في محطّات العبور على ضفاف النهر

وأنا انتظرتك يا أبي من نصف قرنٍ في دروب القهر

وأنا انتظرتك في سراديب الليالي ومتاهات الضياع الخادعة

وأنا انتظرتك أحملُ عبء الهزيمة من عناوين الحروب إلى فضاء الأسئلة

أُناديك من شُرفةِ الموتِ والانهيار فوق الأرصفة

وطني تمزّق واستحال في حمأة الانتقام إلى شظايا تحت قصف الطائرات

مثقلٌ قلبي المُعنّى يا أبي بالنفي والبارود والدرب الطويل

مثقلٌ قلبي المُعنّى يا أبي

ضاعَ منّي الدليلُ يا أبي، والخيولُ التي غادرت لم تعد

ضاعَ منّي الدليلْ يا أبي فامددْ يديك

آن أن أمسح أحزاني وأمضي إلى النبع المُصفّى

إني هنا من نصف قرنٍ أرتجي إشعاعَ ضوءْ للرحيل

حاملاً أمسي ويومي أُفتشُ عن أمل

أَعطِني يديك تَأْشيرةً للعبورِ يا أبي

أَعطِني يديك لنكمل المشوار في اتجاهِ الضوءِ

أعطني يديك العجوزين يا أبي لنُسقِطَ الجدارْ

أعطني يديك العجوزين لنزحف يا أبي على خطوط النارْ

نعيدُ إلى القدس وجهها العربي ونمسحُ عن جبينها الأذى والعارْ

أعطني يديك نمضي معاً تحت شمس الظهيرة يا أبي

أعطني يديك نمضي معاً نُصارعُ الأَنواءَ والظَلام

مَرَّةً، ثُمَّ أُخرى، وأُخرى

خطوةً…خطوةً

واحدٌ…واحدانِ

ذراعاً يلزُّ الذراع

ثم نمتدُّ، ونكبر

ثم نجتازُ، ونعبُر

أعطني يديك حتى نعبر المُحال تحت جُنحِ الليلِ

أعطني يديك حتى نسيرَ فوق الماء

أغنيةً

وبركاناً

وأمواجاً

وناراً

أعطني يديك حتى نعيدَ صياغة الزمن الفلسطيني

أعطني يديك حتى نعيد صياغة التاريخ والقرار

أعطني يديك حتى ينتهي العذاب

أعطني يديك لتولد الحياةُ من جديد

أعطني يديك ليِعبرَ النهار

أعطني يديك حتى تبدأ القيامة

أعطني يديك حتى يبدأ الإعصار.

 

  • كاتب أردني






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي