السرد الروائي العربي ابن العزلة

2020-04-22

في العزلة تنمو الشخصيات الروائية (لوحة للفنان طلال معلا)

عواد علي*

العزلة مفتاح لصناعة الشخصيات الروائية، اشتغل عليها الساردون منذ القدم ليخلقوا فيها شخصياتهم التي يحملونها القضايا التي يريدون طرحها، على غرار شخصية “حي بن يقظان”، وقد تواصل هذا الأسلوب إلى اليوم في الرواية المعاصرة.

تناولت أعمال سردية عربية قديمة ومعاصرة شخصيات متخيّلة أو مأخوذة من الواقع، عاشت في فضاءات مغلقة أو مفتوحة لأسباب ودوافع ذاتية وموضوعية مختلفة. ولعل أشهر شخصية من هذا النوع في الأدب العربي القديم هي الشخصية الأسطورية الرمزية “حي بن يقظان”، الذي استقر به الحال وهو رضيع في جزيرة لا إنسان فيها حتى بلغ الكبر.

كُتبت أسطورة هذه الشخصية في أربع صياغات سردية؛ الأولى للفيلسوف ابن سينا، والثانية للصوفي شهاب الدين السهروردي، والثالثة للفيلسوف ابن طفيل، والرابعة للعالم والطبيب ابن النفيس، الذي تنبه إلى أنها لم تكن توافق مذهبه، كونه فقيها شافعيا، فجعلها بعنوان “فاضل بن ناطق”، وبطلها طفل متوحش وُلد تلقائيا في كهف، وعاش في عزلة بجزيرة مهجورة، وتعلم ذاتيا في عمر مبكر. وفي نهاية المطاف اتصل بالعالم الخارجي بعد وصول منبوذين، تقطعت بهم السبل، إلى الجزيرة، فعاد معهم إلى العالم المتحضر. وتتطور الأحداث تدريجيا إلى أن تصل ذروتها وهي نهاية العالم (القيامة).

الوعي الإنساني الحر المنطلق

السرد العربي

ثمة مَن فضّل صياغة ابن النفيس على صياغة ابن سينا، مثل المفكر والروائي يوسف زيدان، الذي رأى في كتابه “حي بن يقظان: النصوص الأربعة ومبدعوها” أنها تقارب الوعي الإنساني الحر المنطلق، في حين أن صياغة ابن النفيس تعلي من شأن الفضيلة المرتبطة باللغة وبالرسالة.

لكن الكثيرين يعدّون نص ابن طفيل أفضل هذه النصوص، وفيه يورد روايتين مختلفتين، من دون أن يُرجّح إحداهما، تقول الأولى إن حي بن يقظان تخلّق بصورة طبيعية في جزيرة سيلان الهندية، كونها منطقة ذات خصوصية مناخية تشهد بصحة ما ذُكر من تجويز تولّد إنسان في تلك البقعة من غير أم ولا أب. وتذهب الرواية الثانية إلى أنه وُلد نتيجة علاقة غير شرعية بين رجل وامرأة. ولما خافت عليه أمه من أخيها الملك وضعته سرا في تابوت وألقته في اليمّ، فجرى به الماء حتى قذفه إلى تلك الجزيرة المهجورة، وهناك أرضعته ظبية وتعهدته بالرعاية حتى بلوغه سن السابعة من عمره، ثم أخذ يحاكي أصوات الحيوانات، ويستر عورته، ويستخدم العصا دفاعا عن نفسه، ولما نضج فكره انصرف إلى التأمل في الكون والبحث عن الحكمة والوصول إلى حقيقة الوجود، والارتقاء في درجات الوعي والإدراك من الحسي عبر الاتصال بالأشياء والتعاطي معها إلى الإدراك العقلي، ومنه إلى تجربة الكشف الصوفية.

  شخصيات تنعزل لتتأمل وتبحث عن حقيقة الوجود، وأخرى بسبب الفشل في إيجاد حل لأزمة أو احتجاجا على واقع ينتهك إنسانيتها أو لتستتر عن الأنظار

ومن المعروف أن الكاتب الإنجليزي دانييل ديفو كتب في بداية القرن الثامن عشر رواية بعنوان “روبنسون كروزو” تدور أحداثها حول رجل منعزل في جزيرة نائية على أحد سواحل أميركا الجنوبية، ظل وحيدا مدة 28 عاما، إثر تحطم السفينة التي كان يقلها وهلاك جميع ركابها باستثنائه، ثم يقابل أحد المتوحشين ويعلّمه ويجعله خادما له. وتنتهي الرواية بعودة روبنسون إلى أوروبا حيث العالم المتحضر.

ويُعتقد بأن ديفو اقتبس الرواية من ابن طفيل، الذي تُرجم كتابه إلى الإنجليزية في القرن السابع عشر، إلاّ أن ثمة من يقول إنها مأخوذة من تجربة بحار يدعى أليكساندر سلكيرك تحطم قاربه عام 1704 قرب إحدى جزر تشيلي، وبقي في الجزيرة وحيدا مدة أربع سنوات وأربعة أشهر، ثم أنقذته بارجة إنجليزية عن طريق الصدفة.

أنموذج للمأزق الوجودي

ويتضمن السجل السردي العربي المعاصر روايات كثيرة يعيش أبطالها أو بعض شخصياتها عزلة اجتماعية اختيارية أو قهرية بسبب ظروف متباينة، منها، تمثيلا لا حصرا، “خاتم الرمل” للعراقي فؤاد التكرلي، “كتاب الأسرار” للجزائري إبراهيم سعدي، “القوقعة” للسوري مصطفى خليفة، “دملان” للروائي اليمني حبيب عبدالرب سروري، “عزلة الحلزون” للسوري خليل صويلح، “نواقيس العزلة” للإماراتية لطيفة الحاج، “عزلة” للمصري علاء أحمد، “الحالة الحرجة للمدعو ك” للسعودي عزيز محمد، “غرفة الذكريات” للجزائري بشير مفتي، “تحت المعطف” للسوري عدنان فرزات، “كائن العزلة” للمصري محمود الغيطاني و”عماتي الثلاث” للسورية أسماء

معيكل.

كما يحفل الأدب العربي بالكثير من الأعمال الروائية التي تُصنّف ضمن ما يُعرف بـ”أدب السجون”، وهي غالبا ما تدور حول سجناء سياسيين معارضين، أو أفراد عاديين معتقلين جورا بتُهم كيدية، أو لارتكابهم جنايات أو جُنح أو مخالفات يعاقب عليها القانون. ومن أشهر هذه الروايات “شرق المتوسط” و”الآن هنا” لعبدالرحمن منيف، “شرف” لصنع الله إبراهيم، “تلك العتمة الباهرة” للطاهر بن جلون، “القلعة الخامسة” لفاضل العزاوي، و”الوشم” لعبدالرحمن الربيعي، لكني سأقف في الأسطر التالية على بعض روايات الصنف الأول بإيجاز.

روايات العزلة

تشكّل رواية “خاتم الرمل” أنموذجا للمأزق الوجودي الذي يعيشه بطلها المثقف هاشم، المهندس المعماري الذي ينتمي إلى الطبقة المتوسّطة، ويعشق الموسيقى، ويعاني من إحباط وتردد وغربة داخلية ناتجة عن العزلة التي فرضتها عليه أمه في طفولته، واستمرت معه بعد وفاتها، تبعده عن محيطه الاجتماعي، فيغدو كائنا حزينا متألما مستوحشا، لا صديق له سوى صبي أعرج، حتى أنه يترك حفل زواجه من خطيبته وضيوف الحفل لدواع نفسية، على الرغم من شدة المطر، لكي يزور قبر أمه التي تعلّق بها تعلقا شبه غريزي، ما يوحي إلى أنه يعاني من عقدة أوديبية، ويعجز عن فسخ خطوبته في الوقت ذاته، ولذلك يتعرض لحملات الكلام والتنديد، المبطّن تارة والسافر تارة أخرى، من شقيقة الخطيبة وأسرتها وطبقتها. وتدفعه تلك الحملات شيئا فشيئا إلى الوقوع تحت حصار نفسي واجتماعي، ثم تتحول الحملة ضده إلى تهديدات متوالية ودعوات للإذعان والتخلّي عن الخطيبة، وفي النهاية يلقى مصرعه على يد واحد من الطامعين بالفتاة، وهو واحد من أصحاب النفوذ والهيمنة في المجتمع، وأحد أثرياء بغداد الجدد الذين يشكّل أغلبهم طبقة من الرعاع. وبهذه النهاية، كما يقول الشاعر والمترجم كاظم جهاد، تتخذ الرواية بكامل الوضوح بعدا احتجاجيا لا غبار عليه.

 

السجل السردي العربي المعاصر يتضمن روايات كثيرة يعيش أبطالها أو بعض شخصياتها عزلة اجتماعية اختيارية أو قهرية

وفي رواية “كتاب الأسرار” يعيش أغلب شخصيات الرواية العزلة أو الانشداد إلى الطبيعة والهروب من الناس، مثل مرزاق ولونيس ونذير ووالده وأمقران وضياء حبيبة لونيس، ويقضي كل واحد منهم ما تبقى من أيام حياته وحيدا، خاصة حين يفقد الأمل في إيجاد حل لأزمته، أو يصبح الحل مستحيلا، أو التستر على فعل شنيع قام به. فهناك حدث أو ذكرى أليمة تجعل الشخصيات تختار العزلة أو المنفى مكرهة لتكون مخرجا لها من أزمتها، تخمدها في الظاهر، لكنها تظل مشتعلة في الباطن.

وتسلط رواية “دملان” الضوء على شخصية وجدان، الذي يكتب يومياته ويعيش في عزلة صارمة احتجاجا وربما شعورا بالقهر لانتهاك إنسانيته في واقع مرير يصدمه على نحو عنيف، بتحولاته التي تتوالى دراماتيكيا، فمن الصراعات الدموية بين أعضاء الحزب الاشتراكي التي تنتهي بمجزرة 13 يناير 1986، مرورا بالوحدة اليمنية عام 1990، وهو خلال كل ذلك يشعر بأنه ضحية، يعاني من تناقضات عميقة وقديمة، كونه متخصصا في علوم الكمبيوتر، لكن تتنازعه ثقافتان، ثقافة تربيته القديمة وثقافة العالم المعاصر، وينشغل بمحاولة كشف الأسباب التي أدت إلى عزلته للقارئ.

وتستعيد داملا، بطلة رواية “عماتي الثلاث”، سيرة حياتها من غرفة صغيرة في إسطنبول، حيث تعيش بين جدرانها في عزلة، بعد الأحداث الملحمية التي عصفت ببلادها سوريا ودمّرتها.

عزلة اجتماعية اختيارية أو قهرية

وينحرف مسار السيرة بالكاتبة إلى استعادة سيرة عماتها الثلاث اللواتي تولّين تربيتها وكانت تناديهن جميعهن بأمي، ولكل واحدة منهن شخصيتها المتفردة وحكايتها المميزة، وتفاجأ بأن شخصيتها ما هي إلا انعكاس لشخصياتهن وكأنهن حللن فيها، فحتى حينما تنظر إلى نفسها في المرآة تنعكس فيها صور عماتها بدلا من صورتها، وعبر سيرهن تكشف عن سيرة جدها العائد من “السفر برلك” وسيرة بلادها قبل نحو مئة عام، وكيف كانت أحوالها قبل الحرب التي انتهت إليها.

وفي رواية “عزلة الحلزون” يضيع ميخائيل جبران، الذي يعمل مدققا لغويا في موقع إلكتروني ومحررا في دار نشر، هوية تآلف معها زمنا، يحاصره حاضره وماضيه، ويعيش غربة خانقة وعزلة في قوقعته بمدينة فقدت هويتها دون أن تدري، ظانّا أنه بذلك يستطيع أن يبقى بمنأى عن الوجع أمام أحداث قاسية تشهدها حياته الشخصية والوظيفية وظروف بلده.

ويستحوذ على تفكير جبران سؤال عن جذور أجداده الهلاليين حتى بات شغله الشاغل، فأخذ ينبش في تربة “شجرة العائلة”، بحثا عن أجوبة، ووجد بعضا منها في كتابي “فتوح البلدان” للبلاذريّ و”حياة الحيوان الكبرى” للدميري، وكأن عمله ما بين كتب التاريخ واطلاعه على العديد من الكتب النادرة، وحتى تلك التي كلفه بتحريرها صاحب دار النشر تمهيدا لإعادة طباعتها، دفعه إلى المزيد من المكوث في قوقعته الصلبة خلال رحلة التنقيب المتعبة.

ويتبدّى من أحوال هذه الشخصيات وغيرها من الشخصيات الروائية، أنها عاشت أنماطا من العزلة والانطواء، طوعا أو اضطرارا أو قسرا، إما من أجل التأمل والبحث عن حقيقة الوجود والارتقاء في الإدراك من الحسي إلى الإدراك العقلي، أو بسبب الفشل في الاندماج الاجتماعي أو فقدان الأمل في إيجاد حل لأزمة تعاني منها أو احتجاجا على واقع ينتهك إنسانيتها أو لتستتر عن الأنظار جراء أفعال سيئة قامت بها أو كونها سجينة بسبب جرائم ارتكبتها، أو لأنها فارّة من التهديد الذي تتعرض له في بلادها، أو من كارثة الحرب التي تعصف بها، فتضطر إلى التدبّر في بيئة غريبة عنها تؤثِر فيها العزلة على التواصل مع الآخرين.

 

  • كاتب عراقي






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي