محاكمة أرسطو .. قراءة في كتاب "مصاص دماء المسرح الغربي"

2020-04-14

الحسين الرحاوي*

أصدرت الباحثة الفرنسية فلورانس دوبون كتابها المعنون بـ «أرسطو أو مصاص دماء المسرح الغربي» سنة 2007، وترجمه مؤخراً إلى العربية محمد سيف، وصدر عن منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة. تحاكم دوبون المتخصصة في الأدب اللاتيني كتاب فن الشعر لأرسطو معتبرة أنه اخترع مسرحا بلا خشبة، دون آلهة، دون موسيقى، وموجه للقراء فقط، معتمدة في ذلك على منهج تفكيكي يسائل كتاب فن الشعر ويفتت مفاهيمه.

مآزق الأرسطية

كشفت الباحثة في مقدمتها المعنونة بـ «ليس من السهل ألا تكون أرسطو طاليسيا» عن مشروعها التفكيكي لكتاب فن الشعر، داعية إلى التخلي عن المآزق الأرسطية التي تعيق عمليات التفكير بطرق مختلفة، عبر نزع صفة القداسة عن تصنيفاته، ففي إطار مشروعها كان أول ما استهدفته هو مفهوم «الحكاية» باعتبارها الصورة المعاصرة للحبكة الأرسطية، معتبرة أن هذا المفهوم قد احتفل به بريشت وأتباعه كحقيقة نابعة من القلب واستمرت هذه الحقيقة إلى غاية ما اصطلح عليه هانس ثيير ليمان مسرح ما بعد الدراما. فجذور العلة عند الباحثة ضاربة في القدم تعود إلى ما يقارب قرنين من الزمن، لذا عمدت إلى إعادة الكوميديا الرومانية (المغيبة) إلى الواجهة من خلال تسليط الضوء على كوميديا بلوتوس وتيرينس، مشيرة إلى التسرع الذي أدى إلى قراءة هذه الكوميديا بطريقة خاطئة كما لو كانت مسرحا أدبيا تكون الأولوية فيه للخرافة.

فالخطاب الأوروبي حول المسرح اليوناني عندها ينتصب على كاتدرائية إيديولوجية يشكل أرسطو أحد أعمدتها أما الاثنان الآخران فهما ديونيزوس(الثمالة/الوهم) والديموقراطية، مسجلة نقطة أخرى سوداء في نظام أرسطو حددتها في كون أرسطو لم يحدد مكانة المسرح في المجتمع، ولم ينسب له أي وظيفة، وتدارك الأمر عبر اختراع مفهوم التطهير (تراه الباحثة مفهوما انثروبولوجيا فارغا)، متسائلة هل عرفت كل المدن اليونانية النظام الديموقراطي؟

فالغاية عندها ككل من كتاب الشعر هو عزل النص المسرحي من أجل جعله موضوعا للتحليل، مؤكدة أن «الفعل» المسرحي الوحيد الذي عرفه الجمهور الإغريقي هو الأداء الطقسي المرتبط باحتفال ديونيزوس. في نهاية المقدمة لم تتوانَ الباحثة في إدانة منظري المسرح، إذ اعتبرتهم السبب في بناء عقيدة كونية وأدبية لمسرح الأصول وأصول المسرح، من خلال فن الشعر لأرسطو، الذي عززوه بالمعجزة اليونانية منذ القرن التاسع عشر.

 

الخطاب الأوروبي حول المسرح اليوناني عندها ينتصب على كاتدرائية إيديولوجية يشكل أرسطو أحد أعمدتها أما الاثنان الآخران فهما ديونيزوس(الثمالة/الوهم) والديموقراطية، مسجلة نقطة أخرى سوداء في نظام أرسطو

 المأساة

في الفصل الأول الذي وسمته الباحثة بـ (المأساة خارج المسابقة) تصرح بضرورة قراءة أرسطو بلغته الإغريقية بعيدا عن الوسائط المضللة، معتبرة أن فن الشعر لا يعدو أن يكون سوى مشروع فلسفي يصبو إلى تحديد جوهر الشعر المأساوي بطريقة معيارية، وترى أنه من الأليق تسمية المسابقات التي تقام في أثينا بالمسابقات الموسيقية وليس الدرامية كما دأب أرسطو على تسميتها، فوضع أرسطو الأجنبي (وضع نفسه في خدمة ملوك مقدونيا وغير محبوب عند الآثينين الذين يرون فيه عميلا و ملحدا) البعيد كل البعد عن السياق الطقسي فرض عليه أن ينظر إلى المسرح كحدث موضوعي مُزيحا بذلك سبب وجوده (كمؤسسة أثينية). وضعه كأجنبي فرض عليه اختزال المسرح في نص (لم يكن أثينيا ولم يحتفل أبدا بأعياد ديونيسوس الكبرى، ولم يكن عضوا في لجنة تحكيم، وإذا كان قد حضر بعض المآسي فحضوره كان كضيف عادي كمتفرج أجنبي). معززة قولها بسخرية الآثينين من كل من كان يحمل إليهم خطابا خارجيا حول المسرح والشعر (نموذج السوفسطائيين).

فنظامه يعتمد أساسا رؤية خارجية، فحتى المآسي التي يذكرها في فن الشعر لا يمكن له إلا أن يقرأها، وهذا محور الاختلاف بينه وبين أستاذه أفلاطون، فإذا كان أرسطو ينظر إلى المأساة بوصفها خطابا مغلقا ومتماسكا، فإن أفلاطون (أثيني الولادة والتعليم) ينظر إليها بوصفها احتفالا طقسي يقام بالقرب من المذبح وبمشاركة الجوقة التي تعد مصدر هذا الكلام الحزين، جاعلا المأساة عرضا وليس نصا كما فعل تلميذه.

فالمسابقات كإطار تعبيري طقسي غير موجودة في فن الشعر، اللهم لإثبات واحدة من الأسباب الستة للمأساة، ومنها الأسلوب opsis الذي يسميه عرضا، على الرغم من كونه يؤكد على أن العرض لا ينتمي إلى فن الشعر أي إن الشاعر المأساوي لا يكتب من أجل صناعة عرض (فالعرض يأتي كعمل إضافي لكنه غير ضروي).

فقد دأب خدمة لنظامه إلى الحذف المنهجي لكل ما يمكن أن يرسخ المأساة في المدينة، الممارسة الطقسية، فقد أبعد البعد الاجتماعي والديني والثقافي عن المسرح اليوناني، من خلال تخلصه من المسابقات التي تشكل الإطار التاريخي الوحيد الممكن للأداء المأساوي.

 الحبكة

مع استعراض الباحثة معاني الحبكة ووظائفها قبل أن يضمها أرسطو إلى نظامه، مستنتجة أنها لم تكن تتعارض مع اللوغوس اللهم من زاوية التأثير الناتج عن المتلقين، فالحبكة (دائما ساحرة) فهي نوع من العرض اللطيف -بشكل خاص- وليس نوعا خطابيا ولهذا السبب بإمكانها أن تأخذ شكل الحكاية، لأن الناس، كما يقول اليونانيون يحبون الاستماع إلى الحكايات.(ص38). أما عن نسبة الحبكات إلى الشعراء من قبل أفلاطون فذلك سببه عند أرسطو كونهم سحرة خطيرين، متهما إياهم باختلاق قصص مضللة.

فالمؤلف كله عبارة عن استنتاجات، لأنها تصل في منتصف الفصل الثاني إلى اعتبار مركز الجاذبية في فن الشعر هو دراسة المأساة، ونواة هذا المركز هو دراسة الحبكة. ومن ثم فموضوعه، عندها، بشكل عام هو معالجة تركيب الحبكة لأجل استخدام فنون المحاكاة (والمحاكاة هي تعريف لكل الفنون بشكل عام فالمأساة ليست سوى حالة معينة من المحاكاة). الشيء الذي دفع «ديدرو» «Diderot» إلى اعتبار أن روعة الفرجة تنحصر في محاكاة دقيقة لفعل يجعل المتفرج، المخدوع على الدوام، يعتقد أنه يشارك فيه.

مع تركيزها من ناحية ثانية على الخوف والشفقة إذ اعتبرت استخدامهما من قبل أرسطو كان الغرض منه استقبال المأساة بشكل مستقل عن المسابقات، (بهذه الطريقة اخترع أرسطو ممارسة أدبية للمأساة أو بالأحرى نظرية لممارسة مأساة خيالية/طوباوي. (ص53). كما شككت في التطهير واصفة إياه بالبدعة التي اخترعها أرسطو، فهذا المفهوم الذي ورد مرة واحدة في [فن الشعر] في ارتباط تام مع الخوف والشفقة غير نابع من الممارسة الفعلية للمسرح. مذيلة هذا الفصل بالإشارة إلى الوجه الآخر لمشروع أرسطو السياسي المتمثل في استعباد أثينا من خلال جعلها تفقد هويتها الثقافية، وعقلنة كل شيء في الثقافة اليونانية بهدف جعلها قابلة للتصدير إلى جميع أنحاء العالم أي إلى الأراضي التي غزاها الإسكندر. (63)

 الكارثة

أما في الفصل الثاني الذي وسمته فلورانس بـ (توسع الكارثة: الثورات الأرسطية الثلاث)، فهي تشير إلى استمرار المد الأرسطي الطافح على المسارح الحديثة مع وجود قلة قليلة من المتمردين على سطوة نسيجه العنكبوتي، أمثال: كانتور، وبرانديللو، درايوفو، وبوب ويلسون. فأمام دعوات المد الطليعي الحداثي الداعي إلى إحداث قطيعة مع المسارح التقليدية في مسرح ما بعد الدراما لتفجير ثوابت المسارح التقليدية عبر الانفتاح الكوني على مسارح تنتمي إلى جغرافيات ثقافية مغايرة واستعارة التقنيات الفرجوية وما رافق ذلك من ردود أفعال عدوانية إلا أن مسارح ما بعد الدراما ظلت مشدودة إلى الشعرية الأرسطية وخاضعة لسلطتها في الجوهر متمردة عليها في المظهر.

فأحسن نموذج عند فلورانس يمكن من خلاله تفتيت الوهم الأرسطي الجاثم هو المسرح الشعبي(الحي) الذي يكون فيه (الحدث الفرجوي مظهرا عاطفيا لثقافة الكلمات، والصور، والموسيقى، والخشبة والأصوات والأجساد، هنا والآن، حيث تتآزر جهود الكتاب والمخرجين، والممثلين، والمتفرجين في التأسيس لفرجوية الحدث)(ص67)

 الانصياع للمؤلف

تعتبر فلورانس أن الانتصار للنص على حساب العرض، هو من مظاهر هذه الثورة، وفيها تتجلى عودة السطوة الأرسطية في شكل أدبي(المسرح الأدبي) وبموجب ذلك صارت نصوص موليير قابلة للقراءة خارج المسرح.

فتمثل جولدوني كامن في إخضاعه الجهاز اللعبي إلى التخطيط المسبق للسرد، الشيء الذي أدى إلى تكريس أدبية المسرح عبر إيقافه لارتجال الممثلين وللأقنعة، لتوفير الفرصة لإلقاء النص وذلك عبر قطعه مع قوانين كوميديا دي لارتي، كما عمد إلى إخضاع الجمهور قسرا لتقاليد جديدة مخالفة تماما لما تعرفوه في ثقافتهم المسرحية.

وهذا الإجراء الأرسطي الذي قام به غولدوني في إيطاليا سيثير إعجاب ديدرو الفرنسي بعد نصف قرن من الزمان الذي يعتبر المرتجلات الإيطالية شكلا من أشكال الحداثة حتى وإن كان يرى في كوميديا دي لارتي عبارة عن حبكة سخيفة وحوارات متشابهة. لذا عمل على إحداث تغييرات تقنية من أجل تحرير الخشبة مثل إدخال الستارة كفصل رمزي بين الخشبة والصالة، وهذا ما سيسمى فيما بعد بالجدار الرابع، مع دفاعه بشكل متطرف على فكرة محو جميع علامات المسرحة، وكل ما يمكن أن يفصل العرض المسرحي عن القصة الممثلة، مما ضاعف من وجود الإرشادات المسرحية إلى الحد الذي يسترجع فيه النص سلطته التي فقدها(لعب الممثل). ومع دخول المسرح عصر الليبرالية بعد الثورة الفرنسية مع توفر هامش من الحرية وخروج مرسوم يعلن حرية المسارح، أصبحت المسارح بمثابة شركات خاصة، تخضع لقانون السوق.

اختراع المخرج

أما الثورة الثانية فتكمن في اختراع الإخراج، الذي زاد من مضاعفة حضور فن الشعر، فبعد انتصار المؤلف الذي فرض نفسه على الممثل والجمهور سيتم الحكم على المخرج كسيد. وأمام هذا التحول أو الشكل الثاني من الأرسطية تم إيلاء أهمية للحركة والجسد والفضاء والإضاءة والديكور. أي لكل تلك العناصر التي وصفها أرسطو بالعرض ووصفها بالابتذال. وقد سار الإخراج هو الآخر في منحى متواز مع العروض المسرحية الشعبية، الشيء الذي خلق انفصالا عن الثقافة الفرجوية تماما، كما فعل أرسطو بالمأساة من خلال فصلها عن المسابقات الموسيقية ومن ثم صار الإخراج إخراجا أدبيا. مع إشارة الباحثة إلى تجارب إخراجية متنوعة، كتجربة أندريه أنتوان الذي يمقت المسرح الشعبي، ونظيره ستانسلافسكي، الساعي إلى إخضاع الخشبة إلى سلطة النص. تعتبر فلورانس أن للمسرح وظيفة سياسية ولذلك عمدا أنتوان وستانسلافسكي وقبلهما فلاسفة التنوير وديدرو إلى جعل الممثل يتجه إلى الجمهور كخطيب ليخبرهم بالحقيقة فالمسرح عنده هو المنصة الأكثر قوة وتأثيرا أكثر من الكتب والصحافة.

ديكتاتورية الخرافة

وتتمثل الثورة الأرسطية الثالثة في ديكتاتورية الخرافة أو عودة الحبكة إلى الأرسطية الجديدة التي أقامها بريشت ومخرجو ستينيات القرن الماضي، فرغم عروضهم الجميلة، لكن الخطأ الذي ارتكبوه تمثل في اعتقادهم بأن نجاحهم مرتبط بالنظريات التي رافقتهم، فليست النظرية عندها هي التي تصنع الاحتفال.

 بعيداً عن أرسطو

وهو عنوان الفصل الثالث، حيث تعيد الباحثة طرح الكوميديا الرومانية كواحدة من تلك التي نجت تماما من تأثير الأرسطية، لسبب بسيط هو أن الشعرية الأرسطية جاءت تالية تاريخيا لكوميديا بلاوتس وتيرينس الشيء الذي أدى إلى التسرع في استقبالهما كما تمت الإشارة إلى ذلك في الفصل الأول.

فكل كوميدية رومانية هي حدث ثقافي. لذلك، فبدلا من طغيان المنطق الدرامي، أو المنطق السردي على المشاهد والحوارات المسرحية من خلال فعل التحبيك، نجد أن الكوميدية الرومانية ترتهن لمنطق طقسي، ومسرحي مشهدي، قادر على أن يؤدي وظيفة النص بأكمله.

هذه الكوميديات هي نصوص طقسية تخدم الاحتفال الطقسي، وتعد وفق الباحثة أنها تقف نقيضا للمسارح الدرامية، مستخلصة أهم ما يميز الكوميديا الرومانية على المسارح الأرسطية .. الحبكة هي أساس المأساة الأرسطية، أما الأساس في الكوميديا الرومانية فهو اللعب. الكوميديا الرومانية كنظام متماسك يتم مركزته حول لعب الممثل، والجمهور، وأداء الطقوس التي يمكن أن تتعارض مع المسرح الأرسطي الذي يحبك فيها الشاعر الحكاية والنص والقارئ لا يتدخل. المسرح الأرسطي يركز على الحبكة والمحاكاة والتطهير مقابل حذف طقس ديونيسوس من فن الشعر، في حين نجد أن تقاليد المسرح الروماني تركز على طقوس الألعاب وتتجاهل أساسيات المسرح الأرسطي.

وفي الأخير .. وإن كان المشروع غير منجز، فعلى الأقل تمت إثارة أسئلة كانت إلى فترات قريبة تعد بمثابة مسلمات. ونختتم بما قالته فلورانس لوبون: ليس من السهل ألا تكون أرسطو طاليسيا؟

 

  • باحث مغربي في البلاغة والمسرح






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي