باحثة روسية تحذر من المثقفين والعلماء التنويريين

2020-04-12

 تنويريون يدجنون الإنسان (لوحة للفنان بسيم الريس)

يبدو عنوان كتاب الباحثة الروسية أولغا تشيتفيريكوفا “دكتاتورية المستنيرين”، الذي ترجمه الدكتور باسم الزعبي صادما؛ فالدكتاتورية غالبا ما ترتبط بالأنظمة السياسية الشمولية، وقلما يستخدم هذا المصطلح خارج هذا الإطار.

ومن جهة أخرى، ثمة مفارقة كبيرة في أن يظهر المستنيرون، الذين يفترض أن يكون لهم دور تنويري مناقضا نظريا للدكتاتورية، هذه النزعة، فكيف تكون الدكتاتورية في الفكر والعلم والمعرفة؟

يكتشف القارئ من خلال هذا الكتاب، الصادر حديثا عن “الآن ناشرون وموزعون”، أنماط الممارسات الدكتاتورية في أوساط المستنيرين، فإذا كانت الدكتاتورية تعني فرض الوصاية على الناس وقولبتهم في أطر محددة، فإن هناك دورا خطيرا اضطلع به أصحاب المشاريع الفكرية والثقافية والعلمية على مدار التاريخ، وخاصة المنتمين إلى جماعات لا يعرف الكثيرون عنها وعن نشاطاتها إلا القليل، ورغم ذلك فقد تغلغلت في حياة الشعوب وثقافاتها، ولم يعد بالإمكان فصلها وتمييزها.

وبحسب المؤلفة، يبدو أن هذا الخلط كان مقصودا بحد ذاته؛ لأن نشر الأفكار المطلوبة والمرغوب فيها لا يكون عبر كنس الفكر القائم ومحوه وتحويل عقول الناس إلى صفحات بيضاء يكتب عليها ما يراد، إذ لا ينكر أحد أن هناك أفكارا، سواء أكانت فلسفية أم معتقدية أم سلوكية أم أخلاقية، استقرت عميقا في الوجدانين الجمعي والفردي، ويبدو من الصعب تغييرها.

وترى تشيتفيريكوفا أن أصحاب البرامج التي تسعى للسيطرة على عقول البشر ووجدانهم لغايات فكرية أو سياسية أو اقتصادية، لا يتوقفون عن بذل جهودهم في هذا المجال، ولا تتوقف عقولهم عن ابتكار كل الوسائل والأدوات لتحقيق هذه الغاية، وبناء على ذلك تطورت وسائل الإعلام والدعاية، وأدواتها من أقمار صناعية، وإنترنت، وأجهزة هواتف ذكية، وشاشات تلفزيونية، وسينما وغيرها من التكنولوجيات الحديثة.

 " دين جديد"

  أولغا تشيتفيريكوفا تلقي الضوء من خلال كتابها على أنماط الممارسات الدكتاتورية في أوساط المستنيرين

وتضيف المؤلفة أن هذه الجماعات حولت الفكر والعلم إلى أيديولوجيا، وأنها تسعى إلى بناء “دين جديد” تتمكن -انطلاقا منه- من تأكيد سيطرتها على الأفراد والشعوب، وأن الهدف النهائي لدى هذه الجماعات هو السيطرة على الأفراد والشعوب، وما الفكر إلا أداة لهذه السيطرة، وما الدعوة إلى دين جديد إلا وسيلة لتحقيقها، فأتباعها يدركون أن الدين يمثل أقوى وسيلة لتوجيه البشر، لذلك يريدون أن يستبدلوا دينا بدين، دينا يتوافق مع ظروف العصر وطبيعته، والتطورات التي طرأت على المجتمعات البشرية أثناء مسيرتها عبر آلاف السنين.

اليوم تشهد كل الشعوب ثورة عالمية في المجال الثقافي تهدف إلى تغيير جوهر الإنسان واقتلاع جذوره الروحية، تؤكد المؤلفة أن هذه الجماعات تنظر إلى الديانات التي استقرت عليها شعوب العالم، على أنها عقبة كأداء في طريقهم لتثبيت سيطرتهم على هذه الشعوب، فالديانات عموما بما اشتملت عليه من قيم أخلاقية وتعاليم وأفكار ما زالت قابلة للتكيف مع حركة التاريخ، وما زالت تستحوذ على عقول وقلوب جماهير واسعة، وتشكل محركا قويا لفاعليتهم السياسية والاجتماعية.

وتوضح تشيتفيريكوفا أن تلك الجماعات الفكرية نشأت في أحضان الرأسمالية، وهي على اختلافاتها الشكلية، تبقى مخلصة فقط للمال وتعمل في خدمته، فقد خاض أتباع الرأسمالية معارك فكرية وثقافية علاوة على السياسية مع خصوم أيديولوجيين كثر، وحققوا انتصارات معينة في بعض الحالات (على سبيل المثال في الصراع مع الأيديولوجيا الشيوعية والأيديولوجيا الفاشية)”.

تقول المؤلفة في مقدمة الكتاب “نشهد اليوم ثورة عالمية في المجال الثقافي، تهدف إلى تغيير جوهر الإنسان ذاته. كل هذا يظهر

المضمون الديني لـ‘النظام العالمي الجديد‘ الناشئ بشكل جلي”. وترى تشيتفيريكوفا أن السنوات الأخيرة تشهد اتجاه النخب الاقتصادية، والمالية، والسياسية، والإدارية، وخاصة النخب في التعليم والثقافة، من الأدب والسينما والموسيقى، والتلفزيون، والأعمال الاستعراضية، كل هؤلاء يسعون إلى تغيير بناء الإنسان الروحي جذريا.

فرفض الإنسانية، بحسب المؤلفة، يتحقق برفع شعار الإنسانوية العابرة، الذي ينظر إليه أنه مرحلة أخيرة وختامية للإنسانية، ويهدف إلى تذليل الطبيعة البشرية ذاتها التي تمثل الجسد غير الكامل (الناقص) والوعي الضعيف. وهذا يعني القضاء الذاتي على الإنسانية، إذ أعلن أن حق الإنسان يكمن في أن يظل الإنسان قابلا للتعديل حتى لا يعود إنسانا.

وكما هو واضح، ووفقا لكلام “العلماء”، فإن الدوائر العالمية المسيطرة سيحاولون تغيير وعي البشرية إلى “وعي تكنوتروني” يتسم بالسحر والغموض، قادر على تقبل حكم الإنسان الخارق في ظروف كارثية من صنع الإنسان نفسه، اشتغلت عليها مراكز الدراسات وأدمغة الغرب منذ زمن بعيد.

يشتمل الكتاب على مقدمة وخمسة عشر فصلا نذكر من بينها التجارب الأولى لإعادة صناعة الإنسان والعلماء السحرة، والبحث عن “المعرفة العليا”، والغنوصية.. جوهر الماسونية وقلبها، ونظرية داروين.. عملية اختراق “المستنيرين”، ونظرية التطور وفق الصوفية، ومن أنشأ اليونسكو ولماذا؟ و”العصر الجديد”.. النواة الجديدة للحكومة العالمية، وتكنيك “العصر الجديد” من الشامانية إلى المخدرات الإلكترونية، و”مؤامرة الدلو”.. والقضاء على المحظورات الأخلاقية، وغيرها.

ورغم أهمية القضايا التي تناقشها الباحثة أولغا تشيتفيريكوفا في كتابها “دكتاتورية المستنيرين” فإنها تصدر عن تمثل ديني مسبق، ينطلق من ثقافة دينية وتقليدية في فهم العالم وتقسيمه إلى محوري الشر والخير، بينما الواقع المعاصر أكثر تشعبا، ولا تقوده الأيديولوجيا التقليدية بل يقوده العلم والمال، وكلاهما ليسا على وئام دائم.

قد تنتهي الأديان في أثوابها التقليدية، ولكن ليس الدين فحسب ما يعطي أخلاقا للإنسان، وقد تنتهي الأخلاق بدورها، لكن ليس بالضرورة أن يكون ذلك بفعل فاعل متمثلا في العلماء التنويريين اللادينيين.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي