رواية "حطب سراييفو" لسعيد خطيبي: رباط الألم والدم بين الجزائر والبوسنة

2020-04-09

 موسى إبراهيم أبو رياش*

عندما تكون الحرب مع عدو خارجي؛ للدفاع عن الوطن، فهي حرب مشرفة، توحد الجميع، موالاة ومعارضة، أصدقاء وخصومًا، أغنياء وفقراء، حاكمين ومحكومين. ومهما كانت الخسائر والتضحيات، فهي تهون في سبيل الحرية والكرامة، يتألم الناس ويحزنون ويبكون، ولكنهم سرعان ما يتعالون على جراحهم، ويرفعون هاماتهم، وتصبح ذكريات الحرب حكايات مساء، يروونها لأولادهم وأحفادهم بفخر واعتزاز. ولكن، عندما يكون الاقتتال بين أبناء الوطن الواحد، لأي سبب كان، ومهما كانت المبررات والحجج، فإن هذا الأمر مخزٍ ومقزز، وهو عار على أبناء الوطن، يسبب جرحًا لا يندمل، وينز قيحًا لا ينضب، ويورث الأحقاد، وينمي بذرة الشقاق والخذلان، ويقود الوطن إلى مصير مجهول.

رواية «حطب سراييفو» سارت بين ألغام عشرية الجزائر السوداء، التي ما زالت- حسب الزمن الروائي- تترصد وتهدد وتزرع الخوف في كل مكان، متقاطعة مع آثار الحرب الأهلية في البوسنة، وما خلفته من ضياع وتيه وخراب، وكلاهما أورث الاغتراب الداخلي، وفقدان الأمل والهجرات والفوضى واختلاط الأمور، وطمس الحقائق. وقد أجاد خطيبي في الربط بين الجزائر والبوسنة برباط الدم والألم، من خلال صوتي الشابين سليم الجزائري وإيفانا البوسنية، اللذين التقيا بدون ميعاد في مدينة ليويليانا عاصمة سلوفينيا، وما لبثا أن افترقا، وعاد كل منهما إلى بلاده، يحمل بذرة حب للآخر، لم تر النور إلا على الورق.

صوّرت الرواية جوانب مختلفة من آثار الاحتراب، وانعكاساتها على الشخصيات، وآثارها النفسية، وعلى العلاقات بين الناس، ونتائجها على الوطن ونظرة الناس إليه، وانعدام الثقة بالسلطة الحاكمة؛ إذ الاحتراب الداخلي ينزع الحياة، ويزرع اليأس، ويجعل من كل مواطن مشروع جثة، أو نثار أشلاء، أو برسم مشوه مختل، وإن انتهت في شكلها الصارخ، ولكنها ستبقى تحز عميقًا، تشوه العلاقات وحتى على مستوى الأسرة الواحدة، وتقطع الأرحام، وتمرض النفوس، وتورث الويلات. الحروب الأهلية لا تنتهي، وإنما تورّث من جيل إلى جيل، إلى أن تحدث انعطافة كبيرة، تخض الجميع، وتعيد تشكيلهم من جديد.

 

رواية «حطب سراييفو» سارت بين ألغام عشرية الجزائر السوداء، التي ما زالت- حسب الزمن الروائي- تترصد وتهدد وتزرع الخوف في كل مكان، متقاطعة مع آثار الحرب الأهلية في البوسنة، وما خلفته من ضياع وتيه وخراب

حفلت الرواية بكثير من التفاصيل والمشاهد والمقارنات والآلام والمعاناة، والأسرار التي تتكشف تدريجيًا، ومعظمها صادم ومؤلم، وربما أشد نكاية من آلام الحرب والرصاص. ونترك الأمر لعناية القارئ، ليكشف بنفسه هذه الرواية الجميلة التي تميزت بالسرد الرائق السلس كنهر ليوبليانيتسا، والأحداث المثيرة في الجزائر وسراييفو وليويليانا، بحبكة محكمة عبر التنقل بالتناوب بين صوتي سليم وإيفانا، اللذين يعودان بالقارئ إلى أحداث ماضية عاشاها أو سمعاها أو عاينا آثارها، ولكل منهما مجموعة من الأصدقاء والأقارب والمعارف أثثت الرواية، وأضفت عليها حيوية وواقعية.

امتلأت الرواية بكثير من التفاصيل والأحداث والمشاهد الجانبية، التي لا علاقة لها مباشرة بموضوع الرواية الرئيس، ولهذا الأمر – في أي رواية – معارضوه وأنصاره؛ فأما المعارضون فيرونه حشوًا وزبدًا، يلهي القارئ عن متابعة فكرة الرواية الأهم، ويعدونه ضعفًا وخللًا، وحيلة من الكاتب ليغطي عيوب الرواية. أما الأنصار فيرونه من المنكهات أو التوابل التي تزيد من تلذذ القارئ ومتعته، وتفتح شهيته، والتفاصيل إن لم تنفع فإنها لا تضر. وفي هذه الرواية أرى أن التفاصيل الهامشية تتوافق مع أجواء الرواية وفضائها النفسي، فالحديث في التفاصيل والأحاديث الجانبية هي للخروج من حالة الخوف والترقب والقلق، التي يعيشها المرء وسط الموت المنتظر، والرصاص المترصد، كما أنها تشير إلى الحياة كما نحياها ونعيشها لا كما يريدها الموت ونواطير الأرواح ونسل قابيل. التفاصيل، حيلة بسيطة للخروج من الوساوس والاغتراب والوحدة والصمت، ووسيلة للتعارف والالتقاء. وعندما تكون التفاصيل موزعة في ثنايا الرواية بانسجام غير مخل، فهي من مميزاتها ونقاط قوتها، فهي ضرورية لسد الفجوات، وتنوير المساحات، وإرسال الرسائل، وتزويد القارئ بكم جيد من المعلومات، فمن المؤسف أن نقرأ رواية تمر بأحياء العاصمة وبوسعادة وسراييفو وليويليانا بدون أن نتعرف على بعض من أجوائها وظروفها، فالرواية تكتب للقارئ في كل مكان، ومن حق القارئ أن يتعرف على أمكنة الرواية، وأن يعيش فيها بمخيلته.

انحازت الرواية بشكل واضح للبوسنة وسلوفينيا؛ إن على مستوى العنوان «حطب سراييفو»، أو على عدد الشخوص الروائية، أو على النهاية، إذ كتبت إيفانا مسرحية «حطب سراييفو»، وكتب سليم سلسلة مقالات تحت عنوان «حطب سراييفو». ولست ضد هذا الانحياز، ولا أراه عيبًا، ولكنها ملاحظة فارقة في الرواية، وإن كنت أفضل أن يكون الاهتمام الأكبر بالجزائر؛ فجرح البوسنة قد يبرر لأسباب طائفية، ولكن جرح الجزائر لا تبرير له حتى في شرعة إبليس، كما أن أحداث البوسنة أصبحت ماضيًا، وإن كان قريبًا، ولكن أحداث الجزائر ما زالت جارية تدمي القلوب، وتضرج سماء الوطن بالدم.

رواية «حطب سراييفو، الطبعة الثانية، 327 صفحة» مميزة بفكرتها، وطريقة سردها، وأحداثها، ولغتها جميلة وسائغة، ولكن عابها كم الأخطاء النحوية واللغوية الذي لا يُغتفر، خاصة أن معظم الأخطاء كانت من النوع السهل، الذي لا يُختلف عليه، ولا تحتاج إلى تمعن أو مختص، وبالذات في ما يتعلق بالمثنى. بعض الأخطاء يمكن التسامح معها، لنوعها أو لندرتها، ولكن كثرة الأخطاء تضرب الرواية، لأن الرواية نظام متكامل، واللغة ركن أساسي فيه، ووهن اللغة يوهن الرواية، والإبداع في حقيقته لعب بالكلمات، أو عزف على أوتارها، أو رقص على نغماتها، أو تحليق فوق بساطها. صحيح أن الإملاء والنحو من اللغة، وليس كل اللغة، ولكن أي خلل فيهما يضر بالرواية؛ لأن الثوب إذا تعرض للخرق بخس ثمنه، واللحن إذا انكسر فسد، والإبداع إذا انثلم عطب. ولا أتفق مع من يجعل من اللغة أمرًا شكليًا يسهل علاجه، فما دامت الرواية قد نشرت، فالأصل أن تكون قد خضعت للتدقيق والمراجعة.

وبعد، فإن «حطب سراييفو» التي تأهلت للقائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية 2020، رواية مهمة في بابها، وتوسع من آفاق الرواية العربية، وضرورة أن تلتفت للآخر، ولما يجمعنا به، والمقارنات ضرورية لنرى موضع أقدامنا، وحقيقة أوضاعنا وأوهامنا التي رضعـــــناها منذ الصــــغر، وهي رواية تثير كثيرًا من الأسئلة الإشكالية، وتحتاج لجهود الدارسين لتحليلها وتفكيكها واستخراج ما فيها من جماليات، فهي قبل كل شيء، تستند إلى تاريخ حديث ما زلنا نعيش بعض فصوله، ولم تتكشف كثير من أسراره.

 

  • كاتب أردني

 










شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي