قرابةُ السيف: سيرة المماليك بلسان حكواتي فرنسي

2020-04-05

محمد تركي الربيعو*

 في منتصف القرن العشرين، كان ممكناً في مقاهي القاهرة ودمشق، الاستماع لسيرة البطل الظاهر بيبرس، المملوك أو العبد، الذي أصبح لاحقاً سلطاناً مظفّراً، بعد أن هزم المغول والصليبيين.

تكشف لنا السيرة الشعبية الشامية لهذا الملك، التي صدر منها إلى الآن خمسة عشر جزءاً عن المركز الفرنسي للشرق الأدنى، بعد أن قام عدد من الباحثين الفرنسيين في ليون بإعادة تحقيقها بالاعتماد على دفاتر ثلاثة حكواتيين، مارسوا هذه المهنة في مدينة دمشق، عن حكايا ومغامرات هذا البطل، وعن الأحلام والأقدار التي قادته للقدوم إلى دمشق كعبدٍ، قبل أن يُولّى ملكاً عليها. وتروي واحدة من هذه الروايات كيفية قدوم هذا البطل إلى الشرق.

إذ تبدأ الحكاية بمنامٍ للسلطان الصالح أيوب، سلطان مصر، رأى فيه عبداً مملوكاً، وهو يصبح شخصاً ذا شأن كبير في المستقبل. فطلب، على الفور، من مستشاريه أن ينتقوا له بعناية عدداً من المماليك ممن يتحلّون بالفهم والمهارة والكفاءة، لعلّه يكون صاحب العبد الذي شاهده في المنام. بيد أنّ مستشاروه أعلموه يومها بأنّ لا خبرة لهم في شراء العبيد والأسرى، وأنّه من الأفضل أن يوكل هذه المهمة لأحد سكان مدينة دمشق ويدعى خواجة علي الوراق، فهو بحسب وصفهم «معلّمنا جميعاً».

وانطلاقاً من هذه الحكاية التاريخية، أو الأسطورية، سيقوم المؤرخُ الفرنسي جوليان لوازو في كتابه «المماليك من القرن الثالث عشر حتى السادس عشر» تُرجِم مؤخراً عن دار الجمل، باصطحابنا برحلة فريدة عبر الماضي، للتعرّف على حكايا ذاك التاجر (الخواجا) وغيره من التجار الذين جلبوا المماليك لمدن الشرق، لينتقل بنا لاحقاً بأسلوبه السردي الشيق، لتناول حكايا ومغامرات هؤلاء المماليك في منازلهم الجيدة، ومدارس التعليم العسكري التي التحقوا بها. كما سينجح هذا الحكواتي الفرنسي، انطلاقاً مما تركه لنا مؤرخو تلك الفترة إضافة إلى سجلّات المدن الإيطالية واليونانية، في إثارة شغفنا بأسلوبه، كما فعل حكواتيو دمشق سابقاً، إذ سينقلنا من فصلٍ إلى آخر بين قصص هؤلاء الغرباء. قصص الذين قُتِلوا لاحقاً وهم يدافعون عنها، وطقوسهم، وكيف عاشوا، ومن تزوجوا، وما هي الألبسة التي ارتدوها، وكيف ماتوا، أو قُتِلوا قبل أن يجري دفنهم بمراسيم وطقوس جنائزية على أطراف حي الميدان الدمشقي أو غيره من أحياء القاهرة.

 جغرافيا النخاسة

 رغم أنّ المماليك الأتراك لم يكونوا وجهاً مجهولاً في الشرق الأدنى، قبل القرن الثالث عشر، فقد شكّلوا الحرس المقرّب لعدة أمراء من الأسرة الأيوبية من سلالة صلاح الدين، إلا أنّ شيئاً تغيّر حتماً لكي تأتي تلك الزيارة المبشّرة في المنام لسلطان مصر الصالح أيوب، الزعيم التاريخي 1240/1249. ولذلك يرى مؤرخنا الفرنسي، أن ثمة انزلاقا أرضيا قلب الأوضاع في شبكات تجارة العبيد، ووضع منجم مماليك في متناول التجار، الذين كانوا يمدّون أسواق مصر وسوريا.

هذا الانفجار الجغرافي تمثل بقدوم المغول، وسيطرتهم على سهول في آسيا الوسطى، ما ساهم في تزويد أسواق العبيد بعدد وافر من المماليك الأتراك، ولذلك فقد ارتبط قدر المماليك بقدر المغول مطارديهم وأسيادهم الأوائل. هنا يتحدّث المؤلف عما يسميه»جيبوليتيكا النخاسة»، وأنّه لولا الغزوات المغولية لما كنا شهدنا هذا الكم الكبير من المماليك في أسواق دمشق والقاهرة، ورغم تراجع موجة الغزوات المغولية الكاسحة في سنوات 1260، بقيت الحروب بين سلالة جنكيز خان تمدّ السوق بحصّتها من الأسرى.

في مقابل هذا التطور، يشير المؤلف إلى عامل آخر يتعلّق بنمو مهنة اصطياد العبيد في سهول آسيا، وبعض المدن الأوروبية، فقد أصبحت مصدر دخل منتظم للعديد من التجار والجماعات البدوية. وتحت مسمّيات مختلفة من صائدي عبيد، أو سماسرة ووسطاء ساهم فرنسيون، وكتلانيون، ويونانيون، وأرمن، ويهود، وسوريون ومصريون، وأتراك في تجارة الرقيق. كانت هذه التجارة مجرد سلسلة من السلاسل المتخصّصة، والرحبة جداً بالتأكيد، في تجارة مشؤومة تتنوّع أبواب تصريفها تنوّعاً شديداً، خدمة بيوت، أو عملا زراعيا، أو حرفا متخصّصة. ومن خلال التمعّن في أسماء 170 تاجراً التي كانت تظهر في سجلات مدينة جنوة الإيطالية، يبيّن المؤلف الدور الأساسي للإيطاليين (أكثر من 40% منهم جنويون) و(20% من اليونانيين) و(15% تقريباً من التجار المسلمين القادمين من آفاق شتى).

لم يكونوا تجاراً عاديين، فهم من يزوّد الدول باليد العاملة العسكرية، ولذلك فقد حظوا بحماية السلاطين. ومن بين الحكايا الطريفة التي نكتشفها هنا، أنّ اللقب الفخري الذي أطلق على هؤلاء التجار هو «خواجا»، ورغم أنّ هذا اللقب ليس مرتبطاً في جوهره بتجارة العبيد الجنود، بل وجد في وقت أبكر، لكنّ مكانة الشرف المعترف بها لحامله لقاء الخدمات الشخصية، التي قدّمها للسلطان، بقيت وقتاً طويلاً صفة يحملها تجار العبيد في السلطنة المملوكية، دون سواهم، وقد احتاج الأمر أن تفرض تجارة التوابل نفسها في نهاية القرن الرابع عشر، كسبيل آخر لتمكين السلطان من مواجهة النفقات الكارثية الناجمة عن شراء المماليك، لكي يصبح تجّار الفلفل تجار السلطان ويعترف لهم بلقب الخواجا.

 طفولة المماليك

ولكن كيف كان يعيش المماليك مع وصولهم إلى بيوت أسيادهم الجدد؟

في هذا السياق، يكمل المؤلّف رحلته الإثنوغرافية في عوالم المماليك وبيوتات أسيادهم. فيكشف لنا مثلاً أن المملوك كان يحمل عدّة أنساب تشكّل عند جمعها سيرة ذاتية بأسماء علم؛ فهذه نسبة تذكّر باسم تاجر العبيد الذي باع المملوك، وتلك بهيئة أسياده المتعاقبين. وكان للاسم التركي الذي يُسمون به دلالة حرفية، تجمع بين عنصرين مختلفين، نجم ولون، أو رتبة ونبوءة، والشائع أكثر هو عنصر مستقى من مملكة الجمادات أو مملكة الحيوان، وكانت أكثر هذه المكونات استخداماً، هي لاحقة بغا ويعني الثور الفتي. فمن بين سبعمئة وعشرين ضابطاً من العساكر العبيد، الذين خدموا في الجيش المملوكي منذ منتصف القرن الثالث عشر، والذين اختار ابن تغردي بردي أن يكتب سيرتهم بعد قرنين في معجمه الكبير، حمل أربعة وثمانون منهم اسماً ينتهي بلاحقة بغا، بينما تنوّعت الأسماء بين ألطنبغا (ثور ذهبي)، ويلبغا (ثور كبير)، وأقبغا (ثور أبيض)، وكمشبغا (ثور فضي) وقطلوبغا (ثور سعيد). وكانت تلك الأسماء ذات القيمة الطوطمية تستدعي أيضاً عدداً من الطيور الجارحة، مثل الصقر (لاجين)، والسنقر الأبيض (آقسنقر)، والنسر الحديدي (قشتمر)، أو قلاوون والذي كان يطلق على اسم البطة البرية.

كان بيت مالكهم أو أستاذهم (الآغا) ومن وجوه عدّة، أشبه بعائلة ثانية، سوف تلعب دوراً حاسماً في دمجهم بالمجتمع العسكري. كانوا يمضون بضع سنوات في هذا البيت، قبل أن يلتحقوا بالتعليم والتدرّب على فنون الحرب. في سنوات تعليمهم الأولى، بدت المادة التربوية متوافقة مع عمر المماليك الصغار، لتتنوع مع السنين ويخصّص التأهيل العسكري المحض لأولئك الذين وصلوا إلى سن الرشد، أو على الأقل إلى سن البلوغ أي حوالي الخامسة عشرة. كان يوكل أولاً لمعلم مدرسة يتوجه يومياً إلى الثكنة لإعطاء مبادئ تعليم ابتدائي للجنود الأطفال، الذين يقدّر عددهم في الصف الواحد بخمسة وعشرين تلميذاً، إذ يبدأ دروسه بتعليم اللغة العربية لهؤلاء القادمين من أماكن بعيدة، ليس كلاماً فقط، بل قراءة وكتابة، انطلاقاً من القرآن. هكذا كان جنود المستقبل يتلقون في مقتبل عمرهم تدريباً حقيقياً على القراءة والكتابة، مع ذلك لم يستطع المماليك، كما يؤكّد المؤرخ جوليان، أن يرطنوا العربية بشكل جيد.

تُظهِر تمارين الخط المدرسية التي قام بها صغار مماليك السلطان، التي أدرج أفضلها في مكتبة أستاذهم، تنوّع المؤلفات التي كانت توضع بين أيديهم في مدارس القلعة. قصص الأنبياء، حياة النبي محمد، مجموعات الحديث، كتلك المنسوبة إلى علي بن أبي طالب، التي كانت تشكّل مادة سردية للوعاظ، ودواوين شعر ديني كانت بعض مقطوعاته من تأليف السلطان سيدهم، يجمعها انسجام تام مع الحساسية الصوفية، التي كانت تطبع المجتمع ككل، مقالات في فن السياسة، وأخيراً مرايا الأمراء، تلك الرسائل الوقورة التي تعطي من قد يتولّى الحكم يوماً قدوة حسنة، كانت غالبية هذه النصوص مجهولة المؤلف، وفي الغالب مختصرات لمؤلفات أوسع، جرى تبسيطها لأغراض التعلم أو تنفيذها من قبل التلاميذ أنفسهم، على شكل واجب مدرسي. بعض هذه النسخ لم تكن بالعربية، بل بالتركية مثل كتاب «المعراج» الذي يروي صعود النبي إلى السماء السابعة، وثمة مخطوطات أخرى كانت بلغتين تضم النص العربي وترجمته أو شرحه بالتركية، منسوخاً بين سطور النص الأصلي، مثل «مقدمة في الصلاة» للسمرقندي، وهو رسالة تعود للقرن العاشر ونسخها المملوك حسن بمك.. وفي كل الأحوال كانت العربية هي اللغة الدارجة في فترة الطفولة، لكن التركية تحلّ لاحقاً عندما يبدأ تعليمهم العسكري.

  بين 1250 و1517 تعاقب خمسون سلطاناً على عرش القاهرة، في الوقت نفسه تقريباً، تعاقب خمسة وعشرون سلطاناً على عرش المرينيين في فاس، وستة عشر ملكاً على عرش فرنسا بدءاً من لويس التاسع عام 1226 حتى فرانسوا الأول سنة 1515، عشية انهيار السلطنة

في سن البلوغ الشرعي، أي في نحو الخامسة عشرة، كان المماليك يدخلون مرحلة مفصلية في تعليمهم، هي مرحلة اطّلاعهم على مختلف أنواع الحرب، بإدارة معلمي أسلحة يعينون لكل مدرسة. كان التعليم العسكري ثمرة تقاليد بارعة، وُضِعت قوانينها منذ العصر العباسي، واعتُبِرت بمثابة علم يحمل قيماً أخلاقية ودينية. بدأ الأمراء والسلاطين يستنسخون رسائل الفروسية والكلاسيكة، ويوصون بإغنائها بالرسوم الإيضاحية، لكي يضعوها في مكتباتهم الخاصة. من بين الكتب التي درسوها نعثر مثلاً على كتاب حول الفروسية لمؤلفه بكتوت الرماح، أو على كتاب حول رمي السهام بعنوان «غنية الطلاب في معرفة رامي النشاب» لمؤلفه طيبغا أشرفي القلاميشي، الذي صاغ في قالب شعري، التعليمات التقنية المتخصصة لرماة السهام من أجل تسهيل تعليمهم. كان هدف التأهيل العسكري للمماليك، هو جعلهم فرساناً مهرة، يجيدون استخدام السيف، الخنجر، الرمح، القوس، وهم فوق مطاياهم. وما يكشفه جوليان هنا، أنّ ولعهم بالخيول كان يتخطى دائرة المجتمع العسكري، إذ لم يكونوا يسمحون في القرن الثالث عشر للمدنيين من موظفين كبار وعلماء أو تجار، سوى بركوب البغال، ولذلك بقي الحصان في مخيّلة سكان المدن المصرية والسورية مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالمماليك ومجتمعهم العسكري.

 المماليك والعرش

بين 1250 و1517 تعاقب خمسون سلطاناً على عرش القاهرة، في الوقت نفسه تقريباً، تعاقب خمسة وعشرون سلطاناً على عرش المرينيين في فاس، وستة عشر ملكاً على عرش فرنسا بدءاً من لويس التاسع عام 1226 حتى فرانسوا الأول سنة 1515، عشية انهيار السلطنة. وقد حاول المؤرخون بطرق شتى تبرير إيقاع التعاقب هذا، عبر إبراز عنف السياقات السياسة، الذي ميّز تاريخ السلطنة المملوكية، الذي كان مشهد بدايتها سنة 1250 مقتل الوريث الشرعي للعرش الأيوبي، ومشهد نهايتها سنة 1517 بشنق آخر سلطان مملوكي. ثمة إغواء لـ»قانون الأتراك» الذي يصبح العرش بموجبه حق قاتل الملك في غياب وريث طبيعي له، وفي أسوئها سيادة الفوضى وقانون الأقوى. وفي سياق بحثه عن خلفية هذه التفسيرات، يعتقد جوليان أنها في الغالب قد تأثّرت بمخيلة اثنين من مؤرخي القرن الثالث عشر، الكاتب الرسمي لسيرة بيبرس بن عبد الظاهر، وابن أخيه شفيع بن علي، الذي تكفّل في حوليته بتوضيح ما كان عمّه قد صمت عنه. فعندما توفّي أو قُتِل السلطان قطز سنة 1260، تسلّم بيبرس السلطنة بحجة أنّ «المُلك يؤول إلى من قتل الملك»، كما يقول شفيع بن علي، لكن ما يلفت النظر أنّ هذا القانون لم يعد ذكره لاحقاً من قبل مؤرخين آخرين، رغم حدوث ثورات، ولا حتى من قبل مؤرخي القرن الخامس عشر، الأكثر إسهاباً وانتقاداً للمماليك، ما يُعدُّ مؤشراً على أنّ قانون الأتراك هذا ليس سوى قصةً مُختلقةً تهدف إلى إسباغ ما يشبه الشرعية على الفخ الذي دشّن عهد بيبرس وسيرته الذاتية.

يبيّن المؤلف من خلال دراسته لحياة خمسين سلطان، أنّ ثلاثة عشر منهم توفوا وفاة طبيعية، وواحدا في ساحة القتال. بينما أطيح بالباقين، أو خُلِعوا على إثر اتفاق بين كبار الأمراء وصانعي الملوك، كما أنّ لعبة التمرد التي كتب عن حياة المماليك لا تنسجم كثيراً مع السنين الخمس عشرة التي شكّلت مدة حكم برقوق وجقمق وقانصوه الغوري، ولا مع السنين الست عشرة لعهد بيبرس أو برسباي ولا مع العقود الثلاثة التي اقترب قايتباي من بلوغها. ثمة مفهومان آخران تم استدعاؤهما واستعمالهما بكثافة من قبل المعاصرين/الأوليغاركية والأوتوقراطية، القطبان المغناطيسيان اللذان يفترض أنّهما تجاذبا السلطنة المملوكية بلا توقف، وهنا يمكن أن نضيف أنّ هذا النموذج المملوكي في التفسير هو الذي استُخدِم لاحقاً لتحليل أوضاع بعض الدول العربية، كما في مثال الفرنسي ميشيل سورا، والذي انطلق من نموذج ابن خلدون (صديق السلطان المملوكي برقوق) ليسقطه على حكم العسكر في سوريا، وهو نموذج يرى المؤرخ جوليان، أنه ليس دقيقاً على صعيد الأحداث اليومية للمماليك وادارتهم للسلطة، مما قد يفرض في حالة سورا مثلاً إعادة النظر في النموذج النظري الذي استند إليه وهو يحلل واقع سوريا بعيد السبعينيات.

في رحلة جوليان أيضاً مرور على بيوت المماليك، والأحياء التي سكنوها، ودورهم في توسّع رقعة المدن التي حكموها، كما يطوف بنا داخل مزارات الأولياء الشعبيين الذين أثّروا على السلاطين وألهموا مخيلتهم، وهم يسردون عليهم قصة النبي يوسف التي تشبه في كثير من جوانبها حكايا هؤلاء الأسرى، الذين تحول بعضهم إلى سلاطين. وقد نحتاج لأكثر من حلقة للإلمام بما كتبه الحكواتي/المؤرخ الفرنسي عن ليالي المماليك وبطولاتهم ويومياتهم في دمشق والقاهرة.

 

  • كاتب من سوريا






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي