المقالة الأدبية فن بات في مهب الريح

2020-04-03

حميد سعيد*

تعتبر المقالة فنا من فنون الكتابة خرج من جبة الأدب، ويخلق له أنواعا مختلفة. وتحافظ المقالة الأدبية على طابعها الأدبي، بما هي فن قبل أن تكون ضوابط وقوانين. ولذا فتناول المقالة يبدو هاما في ظل تراجع هذا الجنس الأدبي.

أكتب مقالتي هذه، تحت تأثير قراءتي كتاب الدكتور قيس كاظم الجنابي “المقالة الأدبية في العراق، النشأة والتطور”. والدكتور الجنابي، باحث جاد وناقد مجتهد وأكاديمي رصين، وهو في كتابه هذا، تناول كل ما له علاقة بالمقالة الأدبية، نشأتها وتاريخها ومصادرها.

وحين تناول كتاب المقالة في العراق لم يغفل الذين تأثروا بهم أو الذين أثروا في تكوينهم المعرفي، ثقافة وأسلوباً، من كتاب عرب أو أجانب، كما لم يغفل أيضاً، تأثير النص التراثي  في كتابات بعض كتاب المقالة الأدبية في العراق، حيث أشار إلى المعلمين الكبيرين، الجاحظ  والتوحيدي.

  الدكتور قيس كاظم الجنابي يطرح سؤالا مهما في كتابه "المقالة الأدبية في العراق" يفتح باباً على الحوار بشأن مستقبل المقالة ومكانتها في ميدان الكتابة

المقالة في العراق

ذي نحاول في هذه المقالة قراءة بعض ما جاء فيه، يتجاوز عنوانه لينفتح بالقارئ على المقالة الأدبية كجنس أدبي، مع أنه توسع في كل ما له علاقة بالمقالة الأدبية في العراق، تاريخاً وكُتُبا وكتاباً وكتابات، وصحفاً ودوريات، كانت حاضنة من حواضن المقالة الأدبية منذ إطلالاتها الأولى، وظل يتابعها بتأنٍ وموضوعية، حتى أيام الناس هذه، ولم يقرأ في فصول كتابه، نمطاً واحداً من أنماط المقالة، ليخصه بصفة المقالة الأدبية، بل رصد كل ما يمت إلى فن المقالة، انطباعياً ونقدياً ورحلياً، بما في ذلك نقد الكتب ومراجعتها، ونصوص الحوار بين كاتبين أو أكثر، كما أشار إلى بعض تجارب العمود الصحافي المتميزة وحاول أن يشير إلى ما تتوفر عليه من نسب إلى المقالة الأدبية أو إلى علاقة ما تربطه بها.

وفي سياق هذا التوسع، وهو توسع موضوعي حقاً، وبعيد عن أي تساهل، لم يقرأ تجارب كتاب المقالة ممن كرسوا جل كتاباتهم في حدودها أمثال الدكتور علي جواد الطاهر ومهدي شاكر العبيدي وعبدالجبار عباس وماجد صالح السامرائي ويوسف نمر ذياب وشكيب كاظم وغيرهم، بل توقف عند كتابات شعراء وروائيين وأكاديميين وصحافيين، كتبوا المقالة الأدبية، وممن ذكرهم الدكتور الجنابي في كتابه، حسين مردان وعبدالرحمن مجيد الربيعي ومحيي الدين إسماعيل ومدني صالح وعبدالستار جواد وموسى كريدي ورزاق إبراهيم حسن.

كما أشار إلى  كتّاب المقالة، ممن كانت كتاباتهم لها الريادة في هذا الجنس من أجناس الكتابة الأدبية، ومنهم إبراهيم صالح شكر ومحمود أحمد السيد وروفائيل بطي وسليمان فيضي ومير بصري وغيرهم، وحاول المؤلف أن يضيف بعض المقالات النقدية أو بالأحرى حاول أن يكتشف فيها صلة ما بالمقالة الأدبية، كما في بعض كتابات طراد الكبيسي وسامي مهدي وحاتم الصكر وعلي جعفر العلاق وعلي حسن الفواز وغيرهم.

لذا يمكنني القول، إن الدكتور قيس كاظم الجنابي في كتابه، “المقالة الأدبية في العراق، النشأة والتطور” لم يترك ما هو مهم في ما يتعلق بالمقالة الأدبية إلا تناوله أو أشار إليه، وهو في عمله هذا لم يضف إلى ما سبقه من تآليف مهمة عن هذا الموضوع فحسب، بل سدَّ ما فيها من ثغرات وأكمل ما كان فيها من نواقص، ولذلك فالكتابة عن مؤلف موسوعي بالصفات التي أشرنا إليها لا يمكن تناوله بجميع فصوله وتعدد أطروحاته في مقالة صحافية واحدة محددة المساحة، وهذا ما فرض علي أن أحدد تناولي للكتاب بحدود مدخله النظري، عسى أن أعود للكتابة عنه  وتناول جوانب أخرى مما تضمنه في مقالة أو مقالات أخرى.

قال الدكتور جونسون، عن فن المقالة: هي نزوة عقلية لا ينبغي أن يكون لها ضابط من نظام، هي قطعة لا تجري على نسق معلوم ولم يتم هضمها في نفس كاتبها، وليس الإنشاء المنظم من المقالة الأدبية في شيء.

ويقول عنها أدموند جونس: هي قطعة إنشائية ذات طول معتدل، تكتب نثراً، وتلم بالمظاهر الخارجية للموضوع بطريقة سهلة سريعة ولا تعنى إلا بالناحية التي تمس الكاتب من قريب.

ويقول عنها الدكتور محمد يوسف نجم: المقالة الأدبية، قطعة نثرية محدودة في الطول والموضوع، تكتب بطريقة عفوية خالية من الكلفة والرهق، وشرطها أن تكون تعبيراً صادقاً عن شخصية الكاتب.

مرحلة قلق

أما قيس كاظم الجنابي فيقول إن فن المقالة واحد من فنون المعرفة، ولون من ألوان الثقافة، تطور عن أدب الرسائل بكل أنواعه، السياسية والأدبية والتاريخية والاجتماعية والتجارية، ثم نما وتطور ليأخذ شيئاً من فن الحكاية أو من فن الخطابة، لأنه يعتمد على النثر، أي نثر، أدبي، علمي، تاريخي، جغرافي “مكاني”، أي أنه يعتمد على السرد المعرفي المحمل بأفكار أدبية بشكل خاص، والمقالة ارتبطت نشأتها الحديثة بظهور صناعة الطباعة وبروز الصحافة.

ويعدد المؤلف موضوعات المقالة، بعد تطورها وتحديداً في القرن العشرين، إذ تشعبت وتوسعت وصارت تشمل العديد من الموضوعات، وهي كما يراها، أولا مقالة الصورة الشخصية، التي تعبر عن تجارب كاتبها، وانعكاسات الواقع عليه، نفسياً وفكرياً. ثانيا مقالة النقد الاجتماعي التي تركز على نقد العادات والتقاليد البالية. تليها المقالة الوصفية، وهي التي تعتمد على دقة الملاحظة في وصف ما يراه الكاتب وما يدركه.

أما رابعة المقالات فهي المقالة الرحلية وهي التي تختص بوصف المكان وما يتركه من أثر في نفس الكاتب، وتعني العلاقة بين الموقف والمكان، ختاما بالمقالة الخامسة وهي مقالة السيرة حيث تتناول الشخص في حياته اليومية.

ويطرح المؤلف سؤالا مهما، يفتح باباً على الحوار بشأن مستقبل المقالة ومكانتها في ميدان الكتابة، إذ يقول ما مضمونه: إذا كانت المقالة فناً أدبياً مرتبطاً بالصحافة وتطورها، فهل يمكن أن تستمر على هذا المنوال الذي عرفناها من خلاله، وهل ستتأثر بالمستجدات، الإنترنت، وصحافة الصورة ووسائل الاتصال عبر القنوات التلفزيونية، وهل يستمر حرق المراحل فتصبح المقالة غير ضرورية ويستعاض عنها بالحوار أو الحديث المباشر أو بالصورة المرئية، بعد أن تحول الخطاب الأدبي من التواصل الشفهي ثم بالكتابة ثم السمعي، ثم المرئي، وربما تحول إلى أسلوب وتقنيات أخرى؟

ويحاول أن يجيب عن هذا السؤال المركب، بالقول: إن المقالة أصبحت في مهب الريح وأصبح كاتبها هو الآخر موزعاً بين الصحافة الورقية والصحافة الإلكترونية، كما أن حياة الإنسان أصبحت سريعة وخانقة لا تسمح له بأن يقرأ مقالاً متوسط الطول في مجلة.

وهو يرى أن المقالة الأدبية في مرحلة قلق واضح، على الرغم من مكابرة كتابها ومحاولاتهم التشبث بالزمن، فحين ينشأ جيل جديد مهتم بالمتغيرات الجديدة، ربما يجد من سبقهم خارج ميدانها.

 

  • كاتب عراقي






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي