كتابان عن الألفة.. ضائعة وقائمة

2020-03-28

 إبراهيم عبد المجيد*

ربما لا يجد من هم في عمري مشكلة في البقاء في البيت. حقا أن الفنان لا يطيق الأسوار، ويحن إلى فضاء الطيور، لكن وقد كتب علينا البقاء في البيت، بسبب هذا الفيروس، الذي لا يبدو أن هناك أملا قريبا في الوصول إلى عقار ناجع يمنعه أو يوقفه، فالقراءة والفرجة على الأفلام والمسرحيات وسماع الموسيقى على الإنترنت، تخفف كثيرا من أثر الجدران.

ليس جديدا القول بأن الإبداع يحلق بك في السموات بينما أنت جالس مثل طائر جريح. من بين ما أقرأ الآن، كتابان صدرا متواليين، بينهما شهران تقريبا وكلاهما عن الألفة، ضائعة وباقية. الأول للكاتب والمفكر عمَّار علي حسن بعنوان «عجائز البلدة» الصادر عن الدار المصرية اللبنانية، والثاني للكاتب والفنان التشكيلي حسن الحلوجي هو «الليالي الحلوة والشوق والمحبة» الصادر عن دار «تويا».

حين صدر كتاب عمّار في ديسمبر/كانون الأول الماضي وعرفت بمحتواه كتبت تغريدة على تويتر قبل أن أقرأه، أن هذا الكتاب سيكون مرجعا لكل من يكتبون روايات أو مسرحيات عن الريف في زمن مضى. أجل تغير الريف كثيرا، وتفتتت العائلات والأسر وهذا موضوع كبير. تغيرت أشكال الحياة وراحت الألفة مع أدواتها القديمة في الحقل والبيت، لكن تظل الروايات والأشعار، التي تغنت بوسائل الحياة التقليدية منذ الفراعنة وعبر العصور، زادا روحيا جميلا يحلق بين الحب والإيمان.

عمّار علي حسن الريفي الوافد إلى المدينة منذ ربع قرن، دارسا في الجامعة ومتخصصا في التراث الإسلامي وناقدا وروائيا، تركيبة تذكرك بأجيال النهضة في مصر، الذين كانوا يغامرون في كل فنون الكتابة من أجل توسيع الحياة للآخرين. كتاب «عجائز البلدة» ليس مجرد دراسة اجتماعية، بل هو حكايات تحمل بين كلماتها وتدفقها من المشاعر، كما تحمل من المعرفة في كل حكاية، عن آلة أو أداة من أدوات الحياة. ورغم أنه يأسى عليها وما تثيره في الأرواح دائما، يقدم إليك أيضا هويتها، وماذا كانت تفعل أو يفعل بها الفلاحون.

الأسى لا يعني أن عمّار يعيش منعزلا عما حوله، فهو يعيش الحياة العصرية بكل تجلياتها، لكن كأديب ومفكر لا بأس أن يجسد الماضي في حكايات وصور. لا بأس في هذا العالم القاسي من الحنين. خمس وستون آلة أو أداة للحياة الريفية بعضها في الحقول والطرقات، وبعضها في البيوت القديمة، مثل الحصير والنورج والربابة والزير والطنبور والمصطبة والمَنقَد والكانون والطشت والشادوف والخُص والفُرن والمِذراة والشمروخ والمحراث والسبرتاية والنملية والقُفة والبكرة والبقجة والطلمبة والطبلية والبلاص والساقية والرحاية والدماسة ولمبة الجاز والطاحونة والماجور والقربة والمخلة ـ يكتبها هكذا كما كانت تنطق لا المخلاة ـ والفَلقة والربابة والغربال والسيجة والكردان والقُلّة، الخ.

تقرأ وترى الصور فتجد نفسك قد عرفت وأحسست أن الكتاب نشيد وداع شجيّ، لكن أيضا تتجلي أمامك صور ولوحات فنية قديمة، رغم أنه لا يعرج إلى ذلك، لفنانين كبار رسموا الريف المصري وأهله، أو حتى مصورين، منذ دخلت الصور إلى مصر مع المستشرقين وحملة بونابرت قبلها، والأفلام القديمة التي لحسن الحظ لا تزال هناك قنوات تعيدها، ومن ثم يتسع بك العالم رغم أن الكتاب أنشودة وداع.

  ليس جديدا القول بأن الإبداع يحلق بك في السموات بينما أنت جالس مثل طائر جريح. من بين ما أقرأ الآن، كتابان صدرا متواليين، بينهما شهران تقريبا وكلاهما عن الألفة، ضائعة وباقية

إذا كنت من جيل عمّارعلي حسن، أو من جيل أقدم مثلي، فيقف أمامك بشر، رجال ونساء وأطفال رأيتهم وأخفاهم الزمن عنده، في مكان أفضل كما نقول دائما، ومن ثم يتسع بك الزمان والمكان في زمن أراد فيه وباء غير مفهوم هو كورونا أن يجعلك لا تغادر البيت. لقد انشغلنا جميعا في مصر كما ينشغل غيرنا بما على الدولة أن تفعله، وما على الناس، وأصبحنا كلنا من فرط الرعب مُحذِّرين من التقاعس في المواجهة، ونبحث عن كل ممكن من الحديث لنقنع الناس بالبقاء في البيت، ونقنع الدولة بالافراج عن المعتقلين وتفريغ السجون ممن لا يستحقون السجن، ونقنع رجال الدين بأن الإيمان هو أن لا تلقي بنفسك إلى التهلكة، كورونا، فلا بد من البعد عن تجمعات المساجد. كتاب عمَّار بين هذا الحديث الصاخب، جاء في وقته ليحملنا إلى عالم تغير، لكن حين يتذكره ويحكي شاعرا بألم المفارقة، يكون استراحة شجية ومجهودا غير غريب على عمّار، الذي ينحت في الفكر الديني أفكاره الحداثية، ويقيم في الرواية عوالم من حقائق وخيال رائع.

لا يبتعد الكتاب الثاني لحسن الحلوجي عن روح كتاب عمار، إلا أنه أكثر عما حولك، فحسن الحلوجي مفتون بالمغامرة في الكتابة، ومغرم بمتابعة الألوان وإبراز معانيها الفنية والاجتماعية، ويتنقل بين القصة والدراسات والفن التشكيلي. هنا يحاول الإمساك بالحياة من حولك، من خلال تجليات صغيرة في البيت، مثل باب الشقة والبلكونة والغرف وأجهزتها والمطبخ وغرفة السفرة والغسيل والمحبس والمنور والحمّام، وبينها العلاقات في المنزل، ومرور الزمن في جمل وعبارات ألفناها ولا ننتبه إلى ألفتها مثل «رحت يا شعبان» وما تستدعيه من إخراج السكان لفوانيس رمضان، يعلقونها في البلكونات، وكل سنة وانت طيب صباح العيد، وما تحمله من سلوكيات جميلة، بدءا من سماع تكبيرات العيد إلى العيدية للأطفال وغيرها.

تتحرك الحياة المعتادة حولك حين يأتي لك بعبارات مثل عبارات نرددها إذا ما ضاع شيء في الشقة، عبارات من نوع «آخر مكان حتفتش فيه هو اللي حتلاقيها فيه» أو «الحاجة طول ما أنا مش محتاجها حتفضل قدامي، وأول ما احتاجها بتختفي». ويمشي بك إلى كثير من المفردات وتبعاتها مثل رن الجرس بالغلط، أو إذا كنت طفلا باللعب مع الجيران، وكيف يعلن السكان عن غيابهم بإضاءة مكان في البيت، على عكس ما يتصورون، وتقليد خلع الجزمة عند الباب والأرض العارية هي البلاط ولا شيء فوقه، ويقال عن شخص بلاطة لثقل استجابته، أو لكونه بلا ثقافة، وصندوق القمامة الذي يمكن أن يكشف نذالة أخيك الذي أكل البيتزا وأنت نائم وأخفي فيه العلبة الفارغة. ينتقل إلى الأنوار في البيت وعبارات مازالت وستظل اعتراضا من الأم مثل «منور الأوضة ومش قاعد فيها» أو»منور الأوضة بالليل وشباكها كاشف أختك» وغيرها. وهكذا في كثير من مفردات الحياة في البيوت مثل البلكونة التي كان على سورها «قُلّة» زمان ودش الآن وكيف تسمح البلكونة بإجراء مهاتفات تليفونية بعيداعن المراقبة، وهكذا لا يترك حسن الحلوجي ظواهر المكان ولا ما فيه من أشياء. لوحات. تليفونات. غسالات. بوتاجازات. أدوات مطبخ. راديو. كاسيت. إنترنت، حتى الغسيل وقواعده الإثنا عشر عند النساء مثل مسح الحبل، الذي ستنشر عليه، والتأكد من أن المشبك خال من الصدأ وترتيب الأحجام فالاصغر يُعلّق ناحية الشارع والأكبر بعده من الداخل لضمان جفافها كلها باستثناء الملابس الداخلية إلخ.

حتى الحمّام ومفرداته وأشهر ما يقال أو يُعمل فيه. لكل كتاب من الكتابين متعته. عمار يعيد إليك حياة ضاعت وحسن يذكرك بما تألفه ويبدو عادة فلا تنتبه إليه. كلا الكتابين أوسع العالم حولي وأنا مجبر في زمن كورونا أن أظل في البيت، وأضحك كلما هاتفني أحد وأنتهي من المكالمة، فاترك الموبايل وأغسل يدي كما لو كنت صافحته. أعود وأنتبه إلى أني كنت أتحدث في الموبايل وفي كل مرة أفعلها. ربما احتياجا للضحك والله.

 

  • روائي من مصر






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي