تقنية الحوار في مجموعة "صلاة في حضن الماء" لانتصار السري

2020-03-12

 مصطفى لغتيري*

رغم الإقبال الكبير عليها عربيا حد الاستنزاف، مازالت للقصة القصيرة جدا القدرة على مفاجأتنا بجديدها، الذي يحاول أن ينوع في ثيماتها وأساليبها، وطرق تناولها، فينقذها بذلك من الاجترار والتكرار الممل، الذي أصاب كثيرا من نصوصها، بسبب الاستسهال، الذي ابتليت به من طرف كثير ممن ظنوها مطية سهلة الركوب، غرهم بذلك القصر الشديد لنصوصها، وسهولة نشرها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لكن هيهات، فكلما قصر النص ظهرت عيوب الكتابة فيه، ما يحتم على كاتبها أن يتمتع بمراس وذكاء وتجربة كبيرة في مراودة اللغة، وقدرة على الاختزال بما يعني تجويع اللفظ وإشباع المعنى، على حد قول الجرجاني، وذكاء وقاد في التعامل مع تفاصيلها، خاصة بدايتها وخاتمتها، مع الاحتراس من أن تتحول إلى خبر، أو خاطرة، أو نكتة أو شذرة، وهذا ما يحدث كثيرا للأسف.

راودت الذهن والقلب هذه الهواجس، وأنا أتصفح المجموعة القصصية «صلاة في حضن الماء» للقاصة اليمنية انتصار السري، الصادرة عن «أروقة» عام 2017 بتقديم مميز للناقد المغربي مسلك ميمون، الذي ركز في قراءته للمجموعة على ملامح فنية معينة تميزت بها النصوص، من بينها لحظة الاكتشاف، والمعنى الكامن والتعبير المرئي والعجائبية، وقد اختارت الكاتبة أن تجنسها بـ«صلوات قصيرة جدا»، وهي في ذلك لا تجانب الصواب، فالداخل إلى عالم انتصار القصصي، سيلاحظ – لا محالة – تلك النفحة الرومانسية، التي تجلل النصوص بكثير من البهاء، الذي لازم المجاميع السابقة للقاصة، فيجعلها أقرب إلى الصلاة في محراب العشق، بنوعيه العذري الذي يلمّح ولا يصرح، ويكتفي بما وقر في القلب وصدقه البوح، والحب الجريء الذي يستغرق في تفاصيل الجسد والشهوة، حتى يظنها القارئ كتابة إيروسية جريئة، وقد نجحت الكاتبة في تقديم لوحات قصصية مثيرة، وهي القادمة من جنس القصة القصيرة، الذي خلقت فيه أثرا طيبا، شهد به عدد من النقاد والقراء في اليمن، وفي عموم الوطن العربي، من خلال مجاميعها القصصية «الرقص على سمفونية الألم» و«المحرقة» و«لحرب واحدة»..

هذه النزعة الرومانسية، هي التي أثارتني أكثر من غيرها، لذا آثرت أن أتوقف عندها وأجليها للقارئ، بدون أن يعني ذلك أنها أهم ما توفرت عليه هذه الكبسولات القصصية التي ترتاح بين دفتي المجموعة، ومن هذه الأجواء تقول الكاتبة في الصفحة:

تحت شجرة الزيزفون، تشابكت أناملهما، استرق من القمر لحظة خاطفة، قال لها:

– انظري إلى القمر إنه مكتمل.

تبسمت قائلة: اكتمل بقربك مني، طبع قبلة على شفتيها، انسكب الشهد من ثغرها، عندما أشعل فتيل عود الثقاب جنونهما.

إنها جرأة تظهر وتختفي في النصوص حسب مقتضى الحال تقول الكاتبة:

حضن الماء

دنت منه، همست له:

– أريد ماء..

طوقها بذراعيه، غاصا في حضن الماء، أفاقت في الصباح تفرك ما تبلل من سريرها.

أحيانا تتخذ هذه الرومانسية منحى هادئا وناعما، يصور الحنين والشوق، ممتزجا بما استجد من وسائل رصد في عصر المعلوميات والتواصل التقني، تقول الكاتبة:

 شريحة

تم رصدها عبر الأقمار الصناعية، فوق عشب حديقة منزلها، حدد موقعها.. تناشد السماء عودة غائبها، امرأة عاشقة..

هذا الحب الدافئ حينا والمشتعل أحيانا في القصص السابقة، ما يلبث أن يتخذ لنفسه مسارا آخر يفاجئ القارئ ويكسر أفق انتظاره، من خلال قفلة تجيد انتصار صياغتها، تقول:

ضمته إلى صدرها، أصابعها راقصت غابة شعره الفاحم تنفست عطره المعجون برائحة جسده، توسد ذراعها، همس في أذنها:

– أحبك.. يا أمي.

حتى في خضم هذه المواقف الرومانسية، لم تعدم الكاتبة وسيلة لوسم قصصها بميسم السخرية، لتضعنا نتيجة لذلك في مواقف تختلط فيها الابتسامة بالمرارة، كنوع من الباروديا أو السخرية السوداء، تقول الكاتبة:

 سواد

ارتدت عباءتها السوداء، خطت خطوات إلى الشارع المكتظ بالسياح، انتصبت أمامهم، تفرستهم بحقد، خلعت عباءتها، تساقطوا في لجة سوادها.

وكأن الجسد هنا سلاح لمقاومة عتاة الجنود، إنها قصة صارخة تعبر عن عجز الإنسان البسيط تجاه عنجهية الحرب التي فرضت عليه، ولا يجد من شرورها خلاصا، إنها في أحد مستويات التأويل المأساة اليمنية التي اختزلتها الكاتبة في نص مكثف منضغط، يكاد ينفجر بين يدي القارئ. وقد تأكد هذا الهم اليمني الكابس على أنفاس الكاتبة في نص الهدهد، الذي تقول فيه:

فوق عرشها جلست بلقيس يلفها ثوب الحداد…

من على نافذة قصرها توجس الهدهد خيفة، بغتة ألقى بين يديها خطاب سليمان. تبسمت، وعاد سيل العرم أدراجه…

هذه السخرية لم تسلم منها حتى العلاقة الزوجية، التي طالتها بكثير من الإصرار، نازعة عنها تلك القداسة التي يصبغها عليها المجتمع، فجاءت بعض القصص في المجموعة لتقوم بتعريتها وتكشفها أمام أعين المتلقي بجرأة، تقول الكاتبة:

كريمة

طالت غربة زوجها عنها، انشغلت عنه بتربية كلاب الدوبر.. وصناعة قوالب الجاتوه المغلفة بالكريمة…

هكذا يمكن اعتبار السخرية من أهم ملامح الكتابة في هذه» الصلوات القصيرة جدا» وقد مست حتى أكثر المواضيع حساسية، كالفتاوى التي ابتلي بها عصرنا، هذا في علاقتها بالجسد، تقول الكاتبة:

 فتوى جهادية

غارت قدماها في وحل المستنقع، سماء التوبة تمطر صكوك الغفران.. لسان أخطبوط ملتح يسيل لعابه.. أنامله تغوص بين هضاب خريطتها، جسدها مباح بفتوى شرعية كدمية من قش تتقاذفها أيادي ال…

كما استهوت المفارقة كاتبتنا كديدن باقي كتاب القصة القصيرة جدا، الذين يراهنون عليها من أجل خلق أثر قوي في نفس القارئ، وقد عمدت الكاتبة إلى استثمارها لرسم موقف رومانسي نابض بالحياة، تقول:

الزاوية

صباحا احتضنتهما الزاوية الخالية.. طفقت تسهب في الحديث عنه.

هو كان يرسم ملامح حبيبته التي سيلتقيها مساء.

وخلاصة القول إن الكاتبة انتصار السري، وهي تخوض تجربة القصة القصيرة جدا بعد تجربتها في القصة القصيرة، اختارت أن تظل في خط تماس مع رومانسية باذخة، تجعل نصوصها تخاطر بالارتماء في حضن جنس قريب جدا، لكنها بذكاء استغلت إمكانياتها الفنية للحؤول دون ذلك، سلاحها في ذلك توظيف السخرية وإبعاد شبح الذاتية قدر المستطاع واستغلال تقنية الحوار والاعتماد على المشهدية بدل البوح في كتابة النصوص.

 

  • كاتب من المغرب






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي