مسرحية "حنين حار" للمخرج جواد الأسدي: البحث عن زمن مفقود تحت سماء الأيام الرمادية

2020-03-09

 مروان ياسين الدليمي*

العروض المسرحية للمخرج جواد الأسدي دائما ما كانت تثير استقطاب المتلقي النخبوي طيلة العقود الثلاثة الماضية، لأنه يجد فيها نزعة ذاتية تتجلى في انفراده الفني بعيدا عن العروض السائدة، التي عادة لا تطرح حلولا فنية مبتكرة، بما فيها تلك التجارب التي تقع في إطار استلهام ما أفرزته الحداثة من أساليب في التعامل مع العرض المسرحي.

 مشهدية مسرحية

الأسدي في مشروعه المسرحي ينحاز إلى بنية فنية ضدية تعرّي اللغة المسرحية التي تستعير أبجديتها من المعجم الأرسطي، في إطار البناء الفني، وينحاز فيها لصالح بنية درامية ملحمية، ولم تكن لتتحقق مثل هذه التصورات لو لم يكن مشحونا بذاكرة مسرحية، معبأة بأسئلة تنشد إعادة صياغة تجربة إنتاج العرض من الناحية الشكلانية، من هنا تولى كتابة نصوص عروضه من داخل مختبره المسرحي، بمخيال فنان متمرد على القوالب، واشتبكت في نهجه هذا مجموعة خبرات تقنية في كيفية التعامل مع الفضاء والممثل والمتلقي وبقية مفردات العرض.

ينساق الأسدي في تركيب جملته المسرحية إلى ما يحمله في داخله من نزعة لتأسيس صورة، تتفاعل فيها عناصر تبدو لنا، نحن المتلقين، غير منسجمة، لتشكل في نتاجه بنية قائمة على الدهشة والغرابة، في مواجهة صورة الواقع المخادعة، هذا إلى جانب حرصه على أن يتخذ من العرض منطلقا جماليا، تشتبك فيه الهواجس والأحلام مع الأسئلة الموجعة، التي ترتعش الشفاه إذا ما تجرأ على أن يبوح بها بصوت عال. ولم يكن خطابه الفني يسعى إلى أن يكون استعراضا شكليا، أو أن يتحول العرض إلى حلقة نقاش، بقدر ما يجد فيه مساحة لاكتشاف متعة للتلقي الجمالي، تتفاعل فيها جميع الحواس، لنجد أنفسنا أمام قراءة مسرحية منفصلة عما يجاورها من قراءات، ويقصد من وراءها إلى استثارة مخيلة المتلقي، واستفزازها لتسمو فوق ما يتكدس فيها من إجابات جاهزة.

في السياق العام لمجمل ما قدمه من عروض، كان لديه حرص شديد على أن يبحث في هوامش الواقع المطحون، بسلطة السياسة عن أجوبة، سواء في النصوص التي كانت بتوقيعه أو تولى إعدادها عن نصوص تعود لمؤلفين آخرين، ومن السهولة بمكان أن يتوصل الباحث إلى الروافد التي يتماهى معها الأسدي، ويستوحي منها شخصياته التي عادة ما تكون شخصيات عراقية، منزوية في ظلال الحياة البعيدة عن سطحها الناعم، وعلى سبيل المثال لا يكتفي في عمله بأن يستلهم الشخصية في بعدها الواقعي من الواقع اليومي، إنما يضعها في مختبره المسرحي، ليعيد خلقها من جديد، من بعد أن يشحنها بتفاصيل إنسانية يلتقطها بمجسه الدرامي، سواء من هذا الركن البغدادي، أو تلك الزاوية العراقية، وبمشرطه الدراماتورجي، يعرف أين يضعها، وفي أي سياق يدرجها ضمن المشهدية المسرحية، التي يؤسس عليها أسلوبه في بناء العرض، ومن خلالها يسرد ما يتعبأ في أحشاء الحياة من حياة مطرودة ومنبوذة من قبل السلطة بدلالتها المطلقة.

 مشهديات ستاتيكية

في عمله المسرحي الأخير الموسوم «حنين حار» الذي كان من تأليفه وإخراجه، وتم تقديمه على خشبة مسرح الرافدين في العاصمة العراقية بغداد للفترة من 17 ـ 18 فبراير/شباط 2020، ومن إنتاج الفرقة الوطنية للتمثيل، التابعة لوزارة الثقافة والسياحة والآثار العراقية، كان متوقعا أن يقف المتلقي أمام تجربة جديدة، يؤكد فيها الأسدي أهميته كمخرج، يعِد بكل ما يدفع بتجربة التلقي للعرض المسرحي بالانفلات عن سياق إنشائية القوالب المسرحية الجاهزة، وهذا ما كانت عليه مسيرته منذ أن ابتدأ مخرجا في منتصف سبعينيات القرن الماضي، ومن ثم عمله في العاصمة السورية دمشق، بعد إكمال دراسته العليا في بلغاريا عام 1983، ولكن الأسدي في عمله الأخير لم يكسر هذا التوقع كثيرا عندما وضعنا أمام مجموعة مشهديات مالت إلى الثبات في بنائها الحركي، فحجمت الممثلين ووضعتهم في إطارات محدودة من الفضاء المسرحي، بعد أن تخلى عن إيجاد حلول إخراجية مبتكرة تضيء باستعاراتها الصورية، باعتبارها معادلا موضوعيا لما تحمله الحوارات الطويلة من تفاصيل، تشي بحقيقة العلاقة المحتدمة، التي ترتبط بها الشخصيات مع الحاضر وحنينها الحار للماضي بأمكنته وأشيائه وأغانيه ومدنه.

الخيار الإخراجي الذي استكان له في إنتاج الفعل المسرحي، قلّص ممكنات استثمار ما تمتلكه خشبة المسرح من مساحة رحبة، في استنطاق الخيال، ولو عمل وفق هذا المنظور الذي دائما ما انحاز له الأسدي في أعماله السابقة، كان من الممكن أن يتحررالعرض من خيار اعتماده الرئيس على تقنية الأداء الصوتي، إلى الانحياز ناحية تحقيق معادلة يتوازن فيها التعبيرالصوتي مع حركة الجسد، بما تختزنه لغة الجسد من طاقة تشفيرية.

 

العرض بشخصياته الثلاثة (شفيقة المطربة، الفنان التشكيلي، الموسيقي) عبارة عن شظايا متناثرة لملمها المؤلف/المخرج، ونسج لكل شخصية عالمها الخاص، فنحن أمام مجموعة لوحات منفردة ومنعزلة عن بعضها بعضا، من حيث التفاصيل

 

المكان المحلي

الأسدي في معظم تجاربه يستميل المكان المحلي إلى التمسرح، ساعيا إلى توظيفه بالشكل الذي تصبح فعاليته الجمالية والإجرائية مكتملة بحضورها، ومن الصعب أن يتبلور الخطاب الجمالي من غير أن يتحقق التزامن بينهما، والدلالة الرمزية للمكان المحلي ترتبط هنا برمزية الشخصيات، التي يرسم خطوطها وملامحها الدرامية من تأثيرات الواقع، فزوايا أضلاع المثلث، التي شكّلت شخصيات هذا العرض على سبيل المثال ممثلة بالفنان التشكيلي وزوجته المطربة وابن اختها الموسيقي الشاب، ما هي إلا تمثلات رمزية للدور الذي لعبته هذه الشرائح التي مثلت نماذج من القوى الناعمة، التي حرصت على أن يكون لها دور فاعل في مواجهة الخراب العراقي، عبر انخراطها في صنع الجمال باللون والصوت والموسيقى، وهذا ما يشير إليه تاريخ العراق الحديث، فالشخصية العراقية عندما تحاول الهروب من بؤس الحاضر تستعيد أجمل المشاعر، عبر إشراقات الفنانين العراقيين التي بصمت الذاكرة العراقية.

 سلطة الكلمة

العرض بشخصياته الثلاثة (شفيقة المطربة، الفنان التشكيلي، الموسيقي) عبارة عن شظايا متناثرة لملمها المؤلف/المخرج، ونسج لكل شخصية عالمها الخاص، فنحن أمام مجموعة لوحات منفردة ومنعزلة عن بعضها بعضا، من حيث التفاصيل، لكنها تجتمع في النهاية بمجموعة أسئلة تطرحها الشخصيات الثلاثة، وهي تحاكم الحاضر عندما تستعيد الماضي عبر مشاهد تهيمن على بنائها «ديالوغات» طويلة، تتناثر فيها عناصر حكايات واقعية انتقاها الأسدي من تاريخ العراق الحديث، منذ تأسيس الدولة العراقية في العقد الثاني من القرن العشرين، وصولا إلى ما نشهده اليوم من حراك شعبي يجتاح شوارع مدن وسط وجنوب العراق.

مراهنة الأسدي على سلطة الكلمة بهذه الكثافة، جاءت على حساب تقليص المساحة الإجرائية، التي يتحرك فيها الفعل المسرحي بطاقته الدرامية الفيزيائية على الخشبة، بذلك كانت تجربة العرض بعناصرها الفنية في حالة انزياح، لصالح هيمنة النص، فوجدناه قد اعتمد بشكل أساسي على تفجير ما في داخل الممثل من طاقة شعورية، وجعلها في أغلب مشاهد العرض مرسومة بمساحة محدودة من خشبة المسرح، مقابل مساحة داخلية فضفاضة، كان فعل الممثل ينشط فيها، حتى بدا الممثلون في حواراتهم الطويلة أقرب إلى عروض الـ«ستاند آب» التي عادة ما يكون فيها الممثل على الخشبة يتحرك منفردا داخل إطار رقعة محدودة بمساحة صغيرة، معتمدا على ما يمتلكه من تقنيات في الأداء الصوتي، لإيصال ما يتضمنه حواره الطويل من تحولات في بنيته الدرامية، من غير أن يكون في المعالجة الإخراجية استثمار للفضاء المسرحي، من ناحية بناء منظومة سينوغرافية تأخذ بدلالات العرض إلى مستويات متراكبة من التأويلات.

 الأداء المسرحي

على مستوى الأداء التمثيلي، فإن الأمر يتعلق بالكيفية التي يتعامل بها الأسدي مع الممثل، ويمكن الاستدلال إلى منهجه، من خلال حرصه على تعطيل منظومة الكليشيهات المتخشبة، التي عادة ما تتلبس الممثل بمرور السنين، والشخصيات التي يقدمها على الخشبة، فيحاول معه الوصول إلى تحريره منها، كما يدفعه إلى عدم الإفراط في تكرار استعمال الإيماءات الجسدية، بدلالتها المتداولة، إلى جانب اهتمامه الكبير بأن يتحول إلقاء الممثل إلى بنية مركبة بمستويات صوتية مشبعة بالمشاعر، وهنا في هذه المنطقة الفنية ينفتح عمل الأسدي مع الممثل على خيارات مختلفة ومتنوعة في التقطيع الصوتي والتلوين، بشكل يتواصل مع فكرة التجريب، فإلقاء الممثل لديه عادة ما يستثير ذائقة المتلقي، لأنه يبتعد عما هو دارج من نمطية في التعبيرالصوتي، فلا غرابة في أن يتألق الممثلون في أعماله، كما هو الحال في هذا العرض، حيث توهجت الممثلة الشابة آلاء نجم في تقديم شخصية المطربة، في أداء حيوي، يضعها في مقدمة ممثلات المسرح في العراق على ندرتهن، وكان من الممكن أن يرتقي أداء الممثل مناضل داوود لشخصية الفنان التشكيلي بشكل أكبر بكثير مما قدمه، لو أنه تغلب على الزيادة الكبيرة في الوزن، التي أصبح عليها، والتي لا تتفق مع ما يفرضه العمل في المسرح على الممثل، من أن يكون رشيقا ومرنا، بالتالي حتى يكون جهازه التنفسي مهيأً للتحكم والسيطرة على تقطيع وإيصال الجمل الطويلة بنفس واحد، بدون إجهاد، مع إقرارنا بما يمتلكه مناضل داوود من قدرات الممثل المحترف، الذي يمتلك التقنية التي تجعله يشبع الشخصية التي يؤديها، بدوافع نفسية وشعورية بالشكل الذي يجعلها تنبض بالحياة، أما الممثل الشاب أمين مقداد، الذي قدم شخصية الموسيقار، فعلى الرغم من إمكاناته الأدائية البسيطة، التي لم تسعفه في تقديم شخصية الموسيقار بشكل مؤثر، لكن هذه التجربة ستكون إضافة خاصة لتاريخه الفني، باعتباره فنانا موسيقيا، وهذه هي المرة الأولى التي يقف فيها على خشبة المسرح، وإلى جانب نخبة فخمة من الممثلين الذين يمتلكون مستوى عاليا من الاحتراف، وتحت إدارة مخرج له أسلوبه ورؤيته في استنطاق أدوات الممثل الجسدية والصوتية.

 

  • كاتب عراقي






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي