كيف أصبحت حلزونا

2020-03-07

انطلقتُ مسافرةً في زيارة إلى مدينة حمص. سار الباص مقطّعاً أشرطة الشّمس المليئة بالصور والذّكريات. أوّلُ ما جاء ببالي هو جدتي المتوفّية منذ عشرة أعوام. كم أشتاق لها وأحنّ لأيّامها، حين كنت أتعلّم كنس الغرفة وألهو بالكائنات العالقة بين السجّادة والشّمس في خيط لا ينقطع!

بدأنا نمرّ بمشاهد الدّمار، والباص يمشي بطيئاً بينها كأنّه يمعن في تذكّره. أخذتْ ذاكرتي تتشوّه من هول المنظر، وعبر الدّمار كانت قد تآكلت البيوت في حزنها قائلة: «لم نرد قتلهم.. لقد هدمونا فوق رؤوسهم». في قلب هذا الحزن الهائل صدمني مشهدُ حبل غسيلٍ صامدٍ بالثّياب المنشورة عليه! وحدّثني المشهد باكياً: «غادرني أصحابي على حين غرة، وأما الثّياب فقد مزّق كلّ منها نفسه ليلائم أشلاء صاحبه، وها هي تنتظر».

تابع الباص طريقه وأنا تابعت إمعاني في الفجوات. بعد تحديق طويل صعقتني فكرة ورحت أضحك من سذاجة نفسي، كيف صدّقت المشهد! إنّها مزحة ثقيلة حقّاً! أحدهم قام بقلب البيوت ـ كما الثّياب ـ على وجهها الآخر.. قلت لنفسي حين أجد من يساعدني ندخل أيدينا في الفجوات ونعيد القلب على الوجه الصّحيح. وفي الحقيقة خفت على منزلي أكثر أن يطاله القلب قبل عودتي، فسارعت بالعودة من رحلتي، وحين وصلت لبست المنزل فورا كيلا يستطيع أحدٌ أن يقلبه.

بدأ النّاس بالضّحك عليّ لأني صرت أبدو كالحلزون، واستمرّوا في سخريتهم حتى استيقظوا في أحد الصّباحات ليجدوا عشرة بيوت في المدينة قد تمّ قلبها على وجهها الآخر. أصابهم الهلع وبدؤوا بارتداء منازلهم متعاونين، كل يرتدي غرفة أو اثنتين، ثم شرعنا جميعاً بالزّحف نحو بساتين آمنة من الوحش «قالب البيوت».

للأسف لم تكن لدينا الخبرة فهذه المرّة الأولى التي نكون فيها حلازين، وكان الوحش يتبعنا مخلّفاً وراءه الموت والغبار، ومثيرا فينا رعباً نعايشه أيضا للمرّة الأولى، رعب يشلّ كل إحساس في الكائن ويحوّله إلى كتلة خوف متحرّكة.

بعد سير طويل لم يُفض إلى مستقرّ وصلنا البحر، وبدون تردُّدٍ ركبناه مبتعدين. لكن بعد حين بدأتْ وجوهنا بالاصفرار ورحنا نتبادل نظرات الرّعب.. نعم! لقد كنّا جميعا في اللّحظة نفسها نتذكّر كيف أن رشّ الملح على الحلزون يميته، وأن البحر مالح. ونحن لسنا حلازين بحر!

لم تنفع الذّكرى فمات الكثيرون، والأطفال المساكين لم يعرفوا شيئا عن الحلزون، ولا أنّ البحر مالح، فماتوا على براءتهم. وأمّا من نجا مثلي فيتعلّم كيف يكون حلزوناً جيّداً، وأمّا من بقي في الوطن فيصحو كُلّ صباح على أكثر من عشرة منازل مقلوبة على وجهها الخاطئ.

 

  • سوريا






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي