امرأة تعيش تمزقا بين رجال انتهازيين

2020-03-03

حسونة المصباحي*

يعتبر الأدب الروائي التونسي المكتوب بلغات أخرى أكثر جرأة، حيث يقارب مواضيع ربما لا يقاربها بنفس الأسلوب الأدب المكتوب بالعربية. وربما يعود هذا إلى أن الأدب بلغات أخرى، فرنسية أو إنجليزية مثلا، موجه أيضا إلى قراء لهم انفتاح أكبر من القارئ المحلي، ولكن تبقى الجرأة شرطا أساسيا في الكتابة الأدبية.

ولدت التونسية ناجية الصغير في الإمارات العربية المتحدة، وعاشت هناك 26 سنة. وبعد أن درست الفلسفة في جامعة السربون الفرنسية، عادت إلى تونس لتصدر بلغة موليير عن دار “نقوش عربية”  أول رواية لها بعنوان “الصمت يولد على الجفون”.

  رواية "الصمت يولد على الجفون" للكاتبة ناجية الصغير ترسم صورة آسرة لقصة حب عاصفة رمت بالبطلة داخل نفق مظلم من الخيباب والانكسارات

رواية الكاتبة الأولى صغيرة، لكنها مكثفة، تتخللها استعارات وفقرات مفعمة بشاعرية تذكر بلغة كل من فرنسواز ساغان في “وداعا أيها الحزن” التي تروي فيها الصدمات الأولى بعالم الحب والجنس، ومارغريت دوراس في “العاشق” التي ترسم فيها صورة آسرة لقصة حب عاصفة بين شابة فرنسية مقيمة في ما كان يسمى بالهند الصينية “فيتنام اليوم”، وشاب من تلك المنطقة.

خيبات الحب

 

منذ البداية تشدنا رواية ناجية الصغير فلا نتركها إلاّ بعد أن ننتهي منها وفي أنفسنا مرارة، بطلتها ابتهال التي تطالعنا في الفقرة الأولى بهذا البوح الحزين “الهواء رطب ثقيل، تترسّب فيه بقايا مطر عابر سقط قبل ساعات قليلة. وأنا مبللة من السّاق حتى الرأس، ولا أكاد أميّز ما حولي بوضوح. وقدرتي على تمييز الأشياء المادية التي تحيط بي تتضاءل شيئا فشيئا. وليس باستطاعتي سوى أن أدرك الفراغ الذي يزداد اتساعا ليتملّك كياني وحياتي”.

ثم ترسم الكاتبة صورة مرعبة لحالتها النفسية المتدهورة، تضيف ناجية الصغير قائلة “أنا محبوسة الآن داخل كرة بلورية صغيرة الحجم،  فيها أختنق، ومن خلالها أنا لا أكاد أرى شيئا بسبب تشوش رؤيتي. الأحداث تتلاحق في سلسلة من تزاوج الأسباب والأحداث، وهي متوقّعة جدا، من دون أن تفضي إلى أي شيء مهم يمكن متابعته بشكل واضح ومكشوف”.

بعد هذا البوح، تشرع ابتهال في رواية تفاصيل حياتها العاطفية التي رمت بها داخل نفق مظلم من الخيباب والانكسارات. فبعد أن قطعت علاقتها بالرجل الذي كانت تنتظر أن يكون زوجها، تجد نفسها وحيدة، بلا سند مادي أو معنوي. وهي تحاول أن تقاوم هواجس الوحدة بالتهجد والعبادة، لكنها لا تجد في كل ذلك ما يخفف عنها وطأة الأوجاع التي كانت تزداد حدة يوما بعد آخر.

تشرع بطلة الرواية في البحث عن رجال يعيدون لها الثقة بالنفس، ويبعدون عنها شبح العنوسة التي تهددها، والتي تخشاها عائلتها، ووالدتها بالخصوص.

وعبر الفيسبوك، تسعى ابتهال إلى أن تجد شابا يقاسمها الحب وملذاته. وفعلا تعثر على عدة رجال، غير أن جميعهم يشبعون رغباتهم الجنسية منها، ثم يختفون، فلا تعثر لهم على أثر.

عودة الأمل

بسبب تعدد الخيباب، تحاول ابتهال أن تجد في الكحول ما يمكن أن يساعدها على استعادة حيويتها، وحبها للحياة، إلاّ أن ذلك يضاعف من عذاباتها النفسية والجسدية تماما مثل الممارسات الجنسية العابرة.

في إحدى فقرات الرواية، يسأل شاب ابتهال بعد أن ضاجعها بسرعة خاطفة “هل أحببته؟”… لكنها تغرق في الصمت. بل إنها تنظر إليه من دون أن تراه.

لم يكرر الشاب سؤاله، بل يمضي إلى المطبخ باتجاه كأس الويسكي. وتنظر هي إليه، وتتذكر أنها بحاجة إلى جسده مُلتصقا بجسدها، لكنها سرعان ما تعاين أنه بعيد جدا عنها، وأنه لا ينظر إليها. ثم يستدير ويأمرها أن ترتدي ثيابها فتطيعه وتخرج وهي واثقة أنها لن تراه أبدا. لذلك تسارع بفسخ رقم هاتفه الجوال لتعود من جديد إلى وحدتها القاتلة.

وذات يوم تدخل مكتبة لتحضر حفلة توقيع كتاب جديد. ومن النظرة الأولى تقع في غرام المؤلف الشاب الذي يأخذها إلى شقته لتتعرف على حبيبته. والثلاثة يحاولون ممارسة الجنس في فراش واحد غير أن العملية تفشل. وبعدها تتوطد العلاقة بين الفتاتين لنكتشف في النهاية أن المؤلف الحقيقي ليس ذلك الشاب، وإنما حبيبته.

مرة أخرى تصاب ابتهال بخيبة مرة تزيدها اقتناعا بتفاهة العلاقات في عالم تغلب عليه الأكاذيب والمظاهر الخادعة، والعلاقات الافتراضية التي لا تترك في النفس سوى مرارة الخيبة والإحباط القاتل. وللهروب من كوابيس هذا العالم المقيت، تنطلق ابتهال لزيارة والدتها في مسقط رأسها، لكنها تتوقف في وسط الطريق بعد أن تتأكد أن المواجهة مع والدتها ستكون مرعبة ومدمرة.

وعلى لسان بطلتها تكتب ناجية الصغير قائلة “التفكير في موتي ليس أشد حلكة وحزنا مما أنا أتصور. وأنا أتصور نهايتي بطرق مختلفة: كأن تدوسني سيارة، أو كأن ألقي بنفسي من أعلى عمارة فينفجر رأسي على الرصيف، أو كأن أقطع عروق يدي ليفرغ جسدي من الدم. لي رغبة محمومة في أن أرحل. هذا ما أبتغيه بكل جوارحي… أن أرحل. أن أتحرر.

 التفكير في هذا الموت السعيد يرفعني إلى ما فوق الزمن، ويحررني من كل مسؤولية مواصلة تحمل المزيد مما لا يمكن تحمله”.

  • كاتب تونسي






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي