التشكيل السردي في قصيدة "الموصل في أعقاب الحرب العالمية" للشاعر الدكتور حكمت صالح

2020-03-02

أ.د. صبري مسلم حمادي

 

ثمة سؤال قد يتبادر إلى الذهن ، ونحن بصدد دراسة التشكيل السردي في قصيدة شعرية، هو: هل يمكن للشاعر أن يوائم بين الشعري والسردي؟ ولكي نجيب على مثل هذا السؤال ينبغي أن نتذكر جذور الملحمة ومنذ ملحمة جلجامش السومرية مرورا بالإلياذة والأوديسة وانتهاء بالإنيادة والمهابهارتا وسواها، كان الشعر رديفا للسرد الملحمي. وفي القصيدة المعاصرة تكثر النماذج الشعرية التي تتخذ من السرد القصصي ركيزة لها، وتكاد تلغي الفواصل بين القصيدة والقصة حتى أن الدكتور عز الدين إسماعيل أطلق عليها تسمية القصيدة القصصية ، في حين أسماها الدكتور جلال خياط القصة الشعرية، وفي كل هذه النماذج الشعرية يضفي السرد على القصيدة قدرته الفائقة على التشويق، فضلا عن أنه يبعد التجربة الشعرية عن الرتابة التي قد تصطبغ بها القصيدة في مرحلة ما. يضاف إلى هذا كله أن السرد يفتح آفاقا جديدة أمام الشاعر قد لا تتاح في النسق الشعري المألوف للقصيدة.

ولكي نبرهن على هذا عبر نموذج لقصيدة معاصرة، سنقف عند قصيدة الشاعر العراقي الدكتور حكمت صالح(**) التي اختار لها عنوانا هو: "الموصل في أعقاب الحرب العالمية"، وهو يقصد الحرب العالمية الثانية التي ولد الشاعر في نهاية تلك الحرب الحمقاء (1945) التي تضررت البشرية كلها بسببها وفقد العالم ملايين الناس دون سبب واضح ومقنع لاندلاعها. ولأن الشاعر من مواليد الموصل وهو متعلق بمدينته، وكان منذ صغره يسمع الحكايات الكثيرة عنها، ومنها حكايات البؤس والحرمان والموت إبان تلك الحرب التي لم يسلم منها إنسان. ومن تلك الحكايات الكثيرة حكاية عبود الذي أثرى في زمن الحرب إذ كان يوفر طعاما بسعر معقول للناس بالرغم من الغلاء الفاحش للطعام بوجه عام حيث اضطر الناس إلى أن يبيعوا كل شيء من أجل لقمة العيشز تأمل استهلال القصيدة:

الأَرْبَعِينَاتُ اكْفَهَرَّتْ...

إِذ أَرَاقَتْ مَاءَ وَجْنَتِهَا القَنَابـِلْ

فَغَرَتْ مَلاييناً منَ الأفوَاهِ ...

جَوْعَى فِي الْمَعَاقِلْ

وَأَتَتْ عَلَى كُلِّ الْمَصَابـِيحِ الْمُضِيئَة؛

أَطْفَأَتْهَا بـِالدُّخَانِ وَبـِاللَّهِيبْ .

سَحَقَتْ عُقُولاً ...

بَعْثرَتْ إِبْدَاعَهَا...

فَغَدَتْ رُكَاماً مِنْ رَمَاد.

فَهَلِ الْحَضِارَةُ تَسْتَجِيبْ ...

فَتَحُطُّ أَوْزَارَ التَّغَطْرُسِ وَالْحُرُوبْ !.

يبادر الشاعر حكمت صالح إلى رسم لوحة الحرب المعتمة التي تأتي على كل شيء فتطفئه مستعينا بأدواته الشعرية، وهي هنا إضمامة من الاستعارات بدءا بالأربعينيات من القرن الماضي حيث اشتد أوار الحرب التي كانت قد بدأت في عام 1939 حيث تتشخص تلك الفترة بوجه مكفهر بلا ملامح، ويكني الشاعر عن الجوع بملايين الأفواه المفغورة أمام غول الحرب، وتستكمل لوحة الحرب عتمتها بالدخان وباللهيب، ولم تكتف الحرب بذلك بل تسللت إلى النفوس والعقول وأشاعت الترميد داخل النفس الإنسانية وخارجها. ويختم الشاعر لوحة استهلالته بتساؤل أزلي طالما طرحه العقلاء والمفكرون من الناس، وهو: متى يرتقي الإنسان حضاريا بحيث ينهي حماقة الحرب؟

ويمضي الشاعر في استكمال تلك اللوحة المأساة إذ يرد في المقطع الثاني من القصيدة:

وَتَفَجَّرَتْ حُمَمُ الْبَرَاكِينِ ..

الْمَشَارِقُ وَالْمَغَارِبُ بـِالَّلهِيبْ ..

رَاحَتْ تُمَرِّغُ أَوْجُهَ الشطآن وَالْعِمْران وَالإِنْسَان ِ..

فِي لُجَجِ اللَّهِيبِ الْمَائِج .

الْبَحْرُ يُزْبـِدُ عَاصِفاً بـِزَفِيرِهِ الْمُتَمَاوِجِ...

وَعَلا عَلَى قِمَمِ الْجِبَالِ الشَّامِخَاتْ.

يَا أَيُّهَا الْبَحْرُ الْمُزَمْجر بـِالهَدِيرِ الْهَائِجِ

مَا كَانَ إلاَّ اَنْ تَعَانِقَ سَاحِلاً

تَرْسُو بـِهِ سُفُنُ السَّلامْ.

ويكون غضب الطبيعة قسيما لحدث الحرب فتثور البراكين ويغضب البحر ويغرق كل شيء محدثا طوفانا عارما يصل إلى قمم الجبال وهو لن يهدأ ما لم تتوقف الحرب ويحل السلام.

وبعد أن يرسم الشاعر صورة الحرب الشائهة بوجه عام يعود إلى مدينته التي يحبها (الموصل) فيصف كارثة الحرب وتأثيرها، حيث يرد:

الْمَوْصِلُ الثـَّكْلَى ...

بِذَاكَ غَدَتْ مَعَالِمُهَا ...

طُلُولاً مُوحِشَاتْ

أَشْبَاحُهَا فِي كُلِّ مُفْتَرَقٍ ؛

كَمَائِنُهَا تَرَصَّدَتِ الْمَشَاةْ

(عَبُّودُ ) يَصْطَادُ الصِّغَارَ

مِنَ الدُّرُوبْ

يُلْقِي بـِهَامَاتِ الرُّؤوس...

ِ بـِقَعْرِ بـِئـْرٍ مُظْلِمِ

وَيَبـِيعُ مَقْلِيَّ اللُّحُومِ إِلَى الْجِيَاعِ...

فَيَشْمَئِزُّ الجُوعُ ...

مِنْ طَعمِ الدَّمِ !!!.

( عَبُّودُ ) أَثـْرَى مِنْ رَصِيدِ الْمَوْتِ ..

فَامْتَلأَتْ بـِسُحتِ الْمَالِ ...

أَرْصِدَةُ الولِيمةْ !.

وَتَكَشَّفَتْ عَنْهَا خَفَايَاهَا اللَّئِيمَة ْ!.

حَتَّى إِذَا مَا عَاجَلَ الشَّـنْقُ الْجَرِيمَةْ

وَاهْتَزَّ (عَبُّودُ) المُبَرْقَعُ بـِالشَّنَاعَةِ...

مِنْ فَوْقَ مِشْنَقَةِ الْمَجَاعَةْ

كَانتْ نِهَايَةُ قِصَّةٍ...

سَطَرَتْ حَوَادِثـَهَا الْبَشَاعَةْ !..

والشناعَةْ.

وهنا يسرد الشاعر حكاية عبود الذي أثرى خلال الحرب واكتشف الناس أنه يقدم الأطفال وجبات غذائية، وعلى الرغم من أن الحكاية وكما يبدو من سياق القصيدة كانت شائعة آنذاك ولعلها حقيقية إلا أنها تعطي صورة في غاية الوضوح للحرب التي لا حدود لبشاعتها، حيث يسقط كل شيء، وبضمنها الأخلاق والقيم والمثل الفاضلة إلا فيما ندر من الناس. وكم تتجدد شخصية عبود وأمثاله في هذه الحياة وفي كل الأزمان.

ولكي لا تكون القصيدة مجرد رصد لمدينته إبان الحرب فإنه يفتح كوة مضيئة يطل من خلالها جيل جديد لم ير تلك الأهوال التي رآها أسلافه، حيث يرد قول الشاعر:

 

جِيلٌ مِنَ الأَطْفَالِ بَعْدَ الْحَرْبِ ..

قَدْ شَقُّوا الشَّرَانِق ْ.

مِنْ بَعْدِمَا شَبُّوا عَنِ الأَطْوَاقِ

رَاحُوا يَكْسِرُونَ عُرَى الْبَنَادِقْ

فَالْحَرْبُ تَعيَا ...

عَنْ مُعَاوَدَةِ الْكَلامْ

وَالْحَرْبُ تَخْرَسُ ....

حِينَ يَعقُبُهَا السَّلامْ .

 

مِنْ بَعْدِها

جِيلٌ مِنَ الأطْفَالِ ...

فِي كَنَفِ الْحَضَارةِْ ...

رَاحَتْ تُهَدْهِدُهُمْ نُسَيْمَاتُ السَّكِينَة

فِي كُلِّ مُنْتَجَعٍ بـِأَطْرَافِ الْمَدِينَة ْ.

فِي غُرْفَةٍ عُلْوِيَّةٍ...

طَلَّتْ نَوَافِذُهَا عَلَى حَدَبِ الطَّرِيقْ

قَدْ كَانَ مَوْلِدُ طِفْلِنَا الْبَاكِي

عَلَى مَا خَلَّفَتْهُ الْحَرْبُ ...

مِنْ جُثـَثٍ الْجُنُودِ ... الرَّابـِضِينَ وَرَاءَ أَلْسِنَةِ الْحَرِيقْ.

قَدْ كَانَ مَوْلِدُ طِفْلِنَا

وَتَسَلَّلَتْ قُبَلُ الأُمُومَةِ ...

فِي احْتِضَانِ الطِّفْل ...

ِ تَعْبَقُ بـِالرَّحِيقْ

بـِمَحَلَّة....

ٍ فِيهَا مَنَارَةُ جَامِعٍ ..

شَمَخَتْ بـِجَانِبِهَا

رَشَاقَةُ نَخْلَةٍ حُبْلَى ...

بـِأَعْذَاقِ الرُّطَبْ .

في ظِلِّهَا ...

لدُهورنا يحكي العَجَب ...

مَأْسَاةَ حَربٍ ...

كانت الدُّنيا ...

بِرُمَّتِها الرَّهِيبَةِ...

مَوْقِدَا !!!.

وَ(خُزَامُ) إِذ رَفَعَ الْقَوَاعِدَ ..

وَابْتَنَاهُ مَسْجِداً

تَرِبَتْ يَدَاهُ بـِمَا كَسَبْ .

وهناك كَانَ لِمَوْلِدُ الطِّفْلِ الْمُدَّلَّلِ

قِصَّةٌ مَا أُودِعَتْ أَحداثُهَا ...

بَينَ الكُتُبْ .

وتتجدد الحياة عبر جيل جديد يولد بعد الحرب، وتطوى تلك الصفحة السوداء، وهنا يذكر الشاعر أسماء لأمكنة حقيقية في مدينته الجميلة مدينة الموصل، وما ذلك الطفل الذي أشار إليه الشاعر في السطور الأخيرة لقصيدته إلا ذات الشاعر حكمت صالح، وما ذلك الجيل إلا جيل ما بعد الحرب، حيث طويت تلك الحقبة المريرة لتبدأ حقبة جديدة مختلفة. ويترك نهاية حكايته مفتوحة، إذ ربما يعود إلى القصة الشعرية أو القصيدة القصصية في مناسبة أخرى، حيث يحكي لنا قصة ذلك المولود الجديد آنذاك وما قد آل إليه خلال حياته.

وبذلك يؤرخ شاعرنا حكمت صالح لمولده ولمحلته ولمدينته الجميلة مدينة الموصل الغراء إبان الحرب العالمية الثانية بقصيدته السردية التي جمعت بين فضاء القصيدة وإيقاعها وصورها الشعرية وبين الفضاء السردي لقصة حصلت حقا أو أنها يمكن أن تحصل، وقد تناقلتها الأجيال بعد انتهاء تلك الحرب الطويلة، وفيها عناصر سردية منها الشخصيات والأحداث والزمان والمكان والجملة السردية ذات الطابع الشعري. وتتجلى في هذه القصيدة مهارة الشاعر في صوره الشعرية ومضمونه الإنساني الذي قوامه إدانة الحرب حيث كانت، إذ ركز على الوجه الشائه للحرب وضحاياها وأجوائها الكريهة. ومما يذكر بهذا الشأن أن حسناء المدن وأعني بها مدينة الموصل مبتلاة إذ تعرضت لكوارث لا حصر لها، وآخرها غزو الدواعش المتطرفين لها وتخريب بعض شواهدها الحضارية، ومنها منارة الحدباء ومسجد النبي يونس وضريحه، وسواهما من الشواهد الحضارية العريقة.

(**) الشاعر والأكاديمي والباحث دكتور حكمت صالح جرجيس السيد وهب، من مواليد الموصل بالعراق: 14/4/1365هـ - 14/3/1946م. ماجستير أدب عربي من كلية الآداب، جامعة الموصل 1997 (الصورة البيانية في شعر عبد الله البردوني). واصل مباشرة تحضيره للدكتوراه في الكلية ذاتها. (جماليات الحركة في القرآن الكريم). نشر أكثر من 150 قصيدة في الصحف والمجلات العراقية والعربية منذ 1968. وله أكثر من 30 كتاباً (بضمنها 14 ديوان شعر) ما بين منشور ومعد للنشر.


-أستاذ الأدب العربي الحديث بجامعة الموصل سابقا

-أستاذ النقد الأدبي المعاصر والعميد الأسبق في جامعة ذمار (اليمن)

-أستاذ اللغة العربية في قسم اللغات الأجنبية بكلية واشتناو- أن آربر-

ميشيغان- الولايات المتحدة الأمريكية

 

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي