روايات "أبو الريش" أنموذجاً.. تمثيلات سيكولوجية في الرواية الإماراتية

2020-03-02

إليكترا عند قبر أغاممنون بريشة فريدريك لايتن (1869)

نبيل سليمان

بدت العلاقة بين الرواية والسيكولوجية وثيقة منذ البدايات، كما في روايات إبراهيم المازني (إبراهيم الكاتب) وتوفيق الحكيم (عودة الروح) ونجيب محفوظ (السراب) وصولاً إلى سهيل إدريس (الخندق الغميق) والطيب صالح (موسم الهجرة إلى الشمال) وسواهما كثير. وهنا أشير إلى أنني كنت قد أفردت فصلاً للرواية السيكولوجية في السعودية، وذلك في كتابي (شهرزاد المعاصرة - 2008)، حيث عرضت لروايات تركي الحمد (جروح الذاكرة) وعبده خال (الطين) وأمل الفاران (روحها الموشومة به) وقماشة العليان (أنثى العنكبوت).

لقد تفاقم انشغال الرواية العربية بالجنس والجنسانية من متعلقات علم النفس وسواه، فيما يمكن وصفه بالانفجار الروائي أو الطوفان الروائي في العقدين الماضيين، على الأقل. وقد غلب على ذلك ما هو مَرَضيّ في الإيروتيكا مع الجنوح إلى البورنوغرافيا. ولئن كان كل ذلك يستدعي حديثاً آخر، فاللافت بقوة هو أن الرواية في الإمارات لا تزال بمنجاة من هذا المَرَضيّ إلا فيما ندر، مقابل الاشتغال على والانشغال ببعض الحالات العلمنفسية الشهيرة في السجل الروائي العربي والعالمي، مثل عقدة أوديب وعقدة إلكترا.

من الأسطورة الإغريقية استنبط فرويد ما اشتهر بعقدة أوديب. وتحسن الإشارة هنا إلى كتاب جورج طرابيشي (عقدة أوديب في الرواية العربية). وربما كان طرابيشي أكبر وأعمق من درس مختلف التمثلات السيكولوجية في الرواية العربية. أما في الإمارات فلعل اهتمام علي أبو الريش بالسيكولوجية في رواياته هي الأكبر والأعمق، وهو الأكاديمي في علم النفس، وهو من اعتبر اكتشاف فرويد لعالم اللاشعور أهم من اكتشاف الأميركيتين ومن الماركسية ومن نظرية التطور. وفي هذا السياق العائد إلى حوار مع الكاتب في جريدة القدس العربي (13/‏3/‏2008) قال عن العقد النفسية: «من يستطيع أن يفك هذه العقدة النفسية إذا لم يستطع الكاتب الاقتراب من هذه المكبوتات وشرحها والإفصاح عنها وإعلانها أمام الملأ بأن هذا هو الإنسان، وليس كما ترونه أنتم؟».

تحضر الأوديبية في رواية أبو الريش (ثنائية مجبل بن شهوان: الحب والغضب - 1997) عبر تكوين الشخصيات النفسي وعلاقاتها المعقدة. وتحقق الرواية ذلك بالأسلوب المعهود للكاتب في بناء الشخصية كما في تشغيل السيكولوجي بعامة في الرواية، حيث تحتاج القراءة إلى التبصّر العميق، وإن يكن الكاتب قد ترك لها علامات تستهدي بها، وربما بدا بعضها للوهلة الأولى ناتئاً، لكن ذلك الانطباع سرعان ما يتبدد. وفي هذه الرواية ثمة الأب شهوان الذي نشأ يتيماً، وعمل بحاراً، وتزوج من ابنة من عمل عنده صغيراً: وقد عانى الابن مجبل والأم أمينة من قسوة شهوان، مما ضاعف من حاجة الابن إلى حماية الحضن الرؤوم، كما ألجأ الأم إلى الابن الذي تروم فيه أيضاً حامياً ونصيراً، وإن يكن صغيراً. وكما هو معروف في السجل الفرويدي، حتى من دون اضطهاد الأب للابن و/‏ أو للأم، أن الابن يستبطن الغيرة من الأب، فكيف بعد أن يذوق هو والأم مرارة الاضطهاد، مما يورث الابن، بالتشخيص الفرويدي، عقدة قتل الأب التي تفتقت دلالاتها حتى بلغت صراع الأجيال في الأدب.

يكره مجبل أباه، والأب يكرهه مقابل محبته لابنته. ويكابد مجبل الإحساس بالعجز، ويدفعه القهر إلى أن يتمنى الموت لأبيه. وهذا الفرويدي يدفعه العجز والقهر إلى رفض النساء. إنها عقدة ما كان لمن ولد في شهره السابع فأثار شكوك الأب بالأم، من شفاء إلا بالأرض. فبالأرض كان تعويضه عن الأم بعد موتها، وعن العجز. وها هو يخاطب الأرض: «أيتها الحبيبة: تعالي لأضمك إلى صدري. تعالي لأغرس هذا الجسد في قاع رغبتك». ويمكن القول إن حضور الجنس في رواية (ثنائية مجبل بن شهوان الحب والغضب) ربما شكا من علة، كما في شخصية سلوم الأعور، وشخصية فاطمة التي تتلقى الشتم والتعنيف راضخة، لكن الأوديبية تظل هي العلامة الفارقة، كما ستكون بعد سنوات في رواية (الغرفة 357 - 2009).

 

الغرفة 357

الشخصية المحورية في هذه الرواية (مطر بن حارب، أبو أحمد)، وفي أول لقاء بمادلين، يتذكر أمه، ونقرأ: «قفزت صورة أمه إلى رأسه. صارت تجول، فكر الرجل كيف تمتزج صورة مادلين بصورة أمه؟ كيف قفز الوجهان وكأنهما وجه واحد، وجسد واحد؟»

فَقَد مطر أمه وهو في العاشرة، ولم يحفظ لأبيه غير الصورة السالبة: إنه الفظ الغليظ كما يصف الابن أباه. ولأنها الأوديبية بامتياز، يتوالى الوصف تحت ضغط الخوف الصريح والمستبطن: إنه الفذ النبيل. وشبيه هذا الأب هو (السمسار) جوزيف الذي يدعو مطر إلى العشاء بحضور مادلين ونسرين اللبنانيتين، في سعي للإيقاع بنزيل فندق البستان الفخم في دبي.

قَدِم هذا الكهل الخمسيني إلى دبي من رأس الخيمة، حاملاً على منكبيه (أزمة منتصف العمر) التي أيقظته على برودة زوجته وبهوت حسنها، فجعل يتحسر على ما ضيّع من العمر، وهو الذي عاش محافظاً على التقاليد. لكنه يمضي إلى دبي وفي الفندق يكون لقاؤه الجسدي الأول بعاملة التنظيف الشابة التي يعجز عن وصالها، فيناولها الأجر ناعتاً إياها بالمجرمة. وفي التحليل النفسي جريمة هذه (المجرمة) مزدوجة، فهي أعلنت ما يبطنه من الرغبة، وبالتالي من نقيض ما عاشه طهوراً، وهي أيضاً كشفت عجزه. وقد جعلته هذه التجربة يدرك أن ما ينقصه ليس فقط الجنس، بل الحب أيضاً.

رويداً تبدأ أسطرة شخصية مطر، كالعهد ببراعة الأسطرة في روايات علي أبو الريش، إذ يخرج مطر إلى شاطئ الجميرا، ومنه إلى قبر أمه. وحين يبلغ القبر يستحضر عاملة التنظيف، وتتراءى له أمه تبتسم وتأمره بأن يصرف عنها هذه (البغيضة) إن كان يحبها هي، فيلوح له وجه الخادمة، فيطرده: «أريد وجه أمي لا وجهك القميء، أريد رائحة أمي لا رائحتك العفنة»، ويصيح: «أمي.. أم مادلين؟». ثم يتيه في الصحراء، وتتوالى مونولوجاته وهذياناته إلى أن يقضي تحت المطر. ونقرأ في ختام الرواية: «انفرجت أساريره، ضحك بجلجلة فرحاً، هز رأسه ثم سكن سكونه الأبدي وهو يحتوي وجه أمه».

تسري السيكولوجية في روايتي (ثنائية مجبل شهوان: الحب والغضب) و(الغرفة 357) بلطافة، شأنها في العديد من روايات علي أبو الريش. ولئن كانت السيكولوجية ومتعلقاتها مما ذكرت في البداية، ومما تلا في الأوديبية، تنادي جميعاً الجسد، فثمة من يقول إن الجسد في الرواية لا معنى له، وهو ما يترتب عليه، كما يكتب ممدوح عزام، قمع المطالبة الجسدية: «إما بالصمت أو بالتماهل. وفي هذه الحالة يكون الصمت أو السكوت شكلاً للتراجع والانسحاب أمام ضغوط الواقع، ومطالب الأيديولوجيا، أو بالامتناع المقصود عن الاقتراب من موضوع الجسد الذي يكون تعبيراً عن موقف الروائي الفكري أو الاجتماعي أو السياسي».







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي