الغرائبية والحلم .. في رواية "كاميرات وملائكة"

2020-03-01

 أحمد عواد الخزاعي*

قد يبدو نصا انفعالياَ، ناتجاَ عن ردة فعل واعية اتجاه حدث إنساني مأساوي كبير، تمكن كاتبه من ترويضه وكبح جماحه، وفق إيقاع سردي هادئ متزن خدمة لقصديته، التي حاول من خلالها إيجاد علاقة توافقية بين الوعي وعلاقته بالوجود، بكل موضوعاته وإرهاصاته.. في رواية «كاميرات وملائكة» للروائي حسن فالح الصادرة عام 2018، نجد أن الكاتب استعان بالغرائبية والحلم، لتشفير نصه الجريء، حتى يمكنه اجتياز عتبة المحرم والممنوع الذي تفرضه النظم الدينية والاجتماعية الصارمة السائدة في مجتمعاتنا، التي تتحاشى الخوض في مواضيع جدلية كهذه، تطرح استفهامات كبيرة تحاذي المحظور، لذا حاول الروائي إحالتها إلى عوالم افتراضية لولوج مجتزئ للحصول على أجوبة لها، كانت فكرة رصد الملائكة وكاميرات المراقبة، لحراكنا اليومي وطريقة تعاطي هذا العالم الروحي الآخر مع واقعنا المعاش فكرة موفقة وجريئة.. لكنها ابتعدت قليلا عن صبغتها الفلسفية، حين عمد حسن فالح إلى ذكر الكثير من التفاصيل والوصف الدقيق، ما أعطاها بعداَ واقعياَ انطباعياَ متناقضاَ مع طبيعتها.

يمثل النص في إطاره العام مجموعة من القصص الرئيسية هي أشبه بالكولاج، تدور حول حدث محوري، هو انفجار منطقة الكرادة الإرهابي الذي راح ضحيته المئات قتلى وجرحى، مع الإبقاء على التعالق المكاني، وارتباط جميع القصص بحيز مكاني محدد، وهو مكان الانفجار، وهذا ما يطلق عليه اصطلاحاَ ( الكرونوتوب الباختيني).

ينقسم النص إلى ثلاث قصص مركزية تختلف من حيث الأحداث والأمكنة، لكنها تلتقي جميعها في لحظة تبئير مركزية حرجة، هي لحظة حدوث الانفجار، وموت أبطال النص الذي جمعتهم في هذا المكان صدفة عشوائية.

ينطلق النص من مشهد ميثولوجي، ذي أبعاد دينية، يمثل اصطفاف ضحايا الانفجار في طابور طويل في عوالم أخرى، بانتظار التعرف عليهم وإحصائهم من قبل الملائكة المكلفين بهذا الأمر، مشهد هو أقرب إلى الانطباع الكلاسيكي لمشهد المحكمة.. يبدأ الملاك المسؤول عن الكاميرا الأولى بالحديث عن ما رصدته كاميرته قبل وبعد الانفجار، عبر استهلال سردي مسهب عن عائلة الضحية (مريم) المسيحية، وتاريخ منطقة الكرادة في بغداد، وتاريخ كنيسة النجاة، ويستمر السرد عبر وتيرة واحدة، ونسق لغوي ثابت وبطريقة (السرد الممسرح) يستمع إليه الضحايا والملاك الرئيس، ثم ينتقل إلى كاميرا أخرى وقصة ضحية أخرى (عمر) الشاب العراقي المهاجر إلى الغرب، هرباَ من الفقر والموت، الذي يضطر للعودة مرة أخرى من أجل أمه المريضة الموشكة على الموت، كونها الرابط الوحيد الذي يشده للعراق.. في هذه القصة نجد أن الروائي تدخل بصورة مباشرة للإفصاح عن واقع مجهول غائب عن البطل، كان يسعى لمعرفته، حين امتنعت عشيقته الألمانية الرد على رسائله الإلكترونية، التي أفصح لها فيها عن خيبة أمله وعن ندمه لهجرها، إضافة إلى شرحه لطبيعة علاقته بأمه، التي مثلت له الوطن.. كان هذا التوضيح يشير إلى متوالية عاطفية، يعيشها معظم الشباب العربي المهاجر إلى الغرب، فدائما ما يوجد شاب عربي مهاجر بحاجة إلى ماتيلدا، ودائما ما تكون هناك ماتيلدا بانتظار مهاجر قادم من المجهول، وبدت نهاية القصة الثانية ذات طابع دراماتيكي، كانت الصدفة حاضرة فيها بطريقة فانتازية.. يلتقي عمر مع الضحية الأولى مريم ابنة صديقه ريان، الذي عرفه في ألمانيا، يتعرف عليها لأنه رأى صورتها عند أبيها، ثم ينتهي المشهد بحدوث الانفجار وموت الجميع، قبل أن يخبرها بأن أباها مات في الغربة، وقد حضر مراسيم دفنه (وعندها تذكر الصورة التي شاهدها في يد ريان وهو يشير إلى ابنته الصغرى في الصورة، ويخبره أن اسمها مريم، وما هي إلا لحظات حتى التهمت النيران كل شيء).

تميزت الكاميرا الثالثة برؤيتها الاستثنائية غير التقليدية، وذلك بإضافة تقنية (الحلم) كبديل عن الواقع، مستعينا بنوع أدبي قديم اشتهر في القرن التاسع عشر في أوروبا، وهو أدب (الرؤيا)، أي خلق عالم بديل افتراضي كوسيلة للتهرب من أي مسؤولية اعتبارية أو قانونية، قد تطال الكاتب، إضافة إلى أنها تمنح مساحة أكبر في حرية التعبير عن الواقع المعاش، ويعد أول من كتب في هذا النوع من السرد هو الكاتب والفيلسوف الفرنسي يوجين يونسكو.

  شكّل الفصل الأخير للرواية استعراضا أفقيا تعدى حدود الحدث المركزي للنص وعراقيته، ليكون أشمل وأعم عبر تضمينه لقصص جانبية ومشاهد إنسانية، لتعضيد النص وتأكيد دلالته

الكاميرا الثالثة: مواطن عراقي بسيط يستيقظ من النوم ليقص حلمه على زوجته، يقف هذا الحلم على أعتاب مدينة منكوبة مستباحة هي بغداد، نتيجة الصراع السياسي على السلطة.. استغل حسن فالح هذا الفصل من روايته ليعبر عن آرائه الشخصية، عبر الملاك المستمع ( الملاك الرئيس)، شكلت هذه الآراء حضورا متواريا له.. لكنه حضور متطرف بعض الشيء، حمل نظرة سوداوية قاتمة لما ستؤول إليه بغداد، وقد غاب عنه إن بغداد عبر تاريخها الحضاري، مرّ بها الكثير من الغزاة، وتعرضت لهجمات أعنف وأشرس مما يحدث لها الآن، لكنها بقيت منارة للفكر وحاضرة من حواضر الدنيا، وسيذهب حكامها الفاسدون وستبقى لنا ولأجيالنا.. وبالمجمل تبقى آراء الكاتب محط احترام كونه (ليس قاضياَ) كما يقول عبد الرحمن منيف، وتبقى كلمة الفصل للمتلقي، الذي يتعاطى مع أكثرها منطقية..( يوما ما سيقرأ الجميع اسم بغداد في كتب التاريخ فقط إذا استمر حكامها على هذا الحال).

ينحدر هذا الحلم إلى هوة مظلمة مأساوية، حين تتداخل الأحداث وتتشظى ليكون الضحية هذه المرة مجموعة من الأطفال المقطعة أشلاؤهم، لتتحول محاولة ترميمها وجمعها هاجس فرانكشتاني لأبويهم. مثل الحلم رؤية مغايرة للعالم الخارجي، باستخدام بيئة دالة حاضنة لهذه الرؤية، ولعملية التعاطي مع الأحداث الدائرة فيها، وإغراقها بالحزن المتماهي مع وقع الحادثة وإيلامها لذوي الضحايا.

شكّل الفصل الأخير للرواية استعراضا أفقيا تعدى حدود الحدث المركزي للنص وعراقيته، ليكون أشمل وأعم عبر تضمينه لقصص جانبية ومشاهد إنسانية، لتعضيد النص وتأكيد دلالته.. أحداث عالمية مأساوية تتخللها حوارات فلسفية، ليرتفع مستوى الحوار إلى شيء أقرب للصرخة الاحتجاجية، جعل الروائي مصدرها هذه المرة السماء وليس الأرض، وعلى لسان الملائكة الذين وقفوا عاجزين مذهولين، لكثرة ما شاهدوا من قتل على الأرض، كانت الصرخة عبارة عن عملية استحضار لجدل فلسفي قديم عن الحياة والموت والخطيئة الأولى والسؤال الكبير.. من المسؤول عن كل هذا؟

كان عطل الكاميرا التي رصدت لحظة الانفجار والمسبب لها، إشارة ذكية من الروائي تشير إلى استهانة الجميع بالدم العراقي، وفتح الباب أمام قضية جوهرية رافقت كل الأحداث التي مرّ بها العراق منذ الاحتلال عام 2003 وهي (ضد مجهول) .

أهم مرتكزات النص:

 1- السرد الممسرح: يعد هذا النمط السردي من الأساليب التي رافقت فجر الحداثة وإحدى سمات مسرح بريشت الثوري، الذي اعتمد التغريب في المسرح العالمي وإزالة الحاجز الرابع الذي يفصل الممثلين عن الجمهور، ليحول جزءا من الخطاب إليهم مباشرة، انسحب هذا الأسلوب على السرد الروائي، من خلال قيام الروائي بتهيئة منصة مسرحية افتراضية لأحد أبطاله، يطل من خلالها على القارئ والأبطال الآخرين داخل النص، والمساهمة في تفكيكه عبر تقنيات (الاستذكار والارتداد والقفز والاستباق).. المسؤولون عن الكاميرات استخدموا الأسلوب السردي، سردا ممسرحاَ على امتداد الرواية، وكذلك قصة الشاب عمر فقد شغل هذا الأسلوب حيزا مهما من قصته، حين أخذ يقص لعشيقته ماتيلدا رحلته من العراق إلى ألمانيا وما لاقاه من مصاعب..( كانت ماتيلدا تنصت لكلماته، بل حتى لصمته).

2- تعدد الرواة : تعد «كاميرات وملائكة» رواية بوليفونية، تعدد فيها الرواة واختلفت مشاربهم وثقافتهم، وحتى أجناسهم وكينونتهم (ملائكة، بشرا)، هذا الأسلوب أتاح للأبطال الفرصة للتعبير عن أنفسهم بصورة مباشرة، بعد أن تنحى الروائي عن مشهد الأحداث في مفاصل مهمة من نصه، ويشكل هذا الأسلوب رؤية متعددة الجوانب للواقع المعاش، من خلال وجهات نظر مختلفة، وأسلوب كهذا في الكتابة غير المشروطة، يتيح للكاتب إظهار كل ما هو (تراجيدي وكوميدي وملحمي وخرافي وفلسفي وأسطوري).

3- التضمين: احتوى النص على ثلاث قصص رئيسية، كانت تمثل الأعمدة الأساس التي تعكزت عليها الرواية، لتلتقي في نهاية كل قصة وتصطدم بالحدث الرئيسي، وهو انفجار منطقة الكرادة، كما احتوت على الكثير من التفاصيل والشروحات والسرد التاريخي غير المبرر، وقصص جانبية وحوارات وآراء سياسية واقتصادية عامة، اهتمت بالوضع الدولي بعيدة عن ساحة الحدث وزمانه، وهذا يعد إثقالاَ لبراءة النص.

4- لغة الرواية: اللغة هي الركيزة الأولى لأي نص روائي، والأهم بالنسبة لبنائها الفني، فهي التي تحدد مساري الزمان والمكان، وتعرفنا بالوعي الممكن، والوعي القائم للروائي، ومستوى ثقافته وتمكنه من أدواته.. في هذا النص كانت اللغة سهلة مرنة ذكية، غير أنها انسحبت بشكل أو بآخر على كونها لغة (مقعرة) قاموسية لا تمثل الواقع وبيئته.. مثال على ذلك، الحوار الذي دار بين صاحب كشك لبيع الشاي وزوجته.

5- الشخصية الروائية: كانت الشخصيات الروائية من النوع (المسطح)، استمرت على وتيرة واحدة لم تتغير ملامحها أو حراكها، طيلة النص فكانت أقرب إلى شخصيات الظل حسب تصنيف الشخصيات الروائية للناقد عبد الملك مرتاض.. فهي بسيطة مهزومة مستسلمة لأقدارها، ارتبطت بالمكان وجدانياَ بعض النظر عن كينونته (أليف، عدائي، افتراضي، واقعي).

 

  • كاتب عراقي







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي