
شادية الاتاسي*
اعتدت أن يجمعني فنجان قهوة الصباح مع صديقتي على الماسنجر، تواصل ملغوم بالحنين والضجر والحيرة، نمارس بكثير من القلق، وقليل من المكر، سياسة الاختباء والتواري، نتلهى بتأويل أحلام، نتعكز عليها لنستلهم منها عزاءات لا تفي بشيء. شهيتنا مفتوحة لعبير الذكريات، لِمَ لا؟ الذاكرة آسرة، نسبغ عليها ما نشاء من منولوجات، نختزل وجودنا، بلحظات متعاقبة من حاضر متدفق. تؤرقنا متتاليات الماضي، تداعياته، أشواقه، والقلوب المليئة بالحنان.
وفي هروبنا الملتبس من حاضر، أعزل من كل وعد، نرتطم بحقيقة سافرة، إذ ندرك، أننا استطبنا السكن في أروقة العزلة والخوف، تركنا بهجة الألوان الحارة، وانضوينا في رخاوة اللون الرمادي الغائم، لِمَ لا ؟ مادام خبيئاً كظل، أليفاً، يساير ولا يعترض. ندهش أكثر، إذ ندرك، أننا نحتمي إلى سقف مقولات غبية، تراوح مكانها، بالكاد تجد لها مساحة خارجة عن بهرجة ما نريد أن نبتدعه من تسويف وتأجيل.
تشكو لي صديقتي هموم البلد، بدءاً بالعتمة والظلام والبرد والغلاء وجرة الغاز ومئة ليتر من المازوت، مرورا بغربة الوجود والقلوب وإفراغ البلد، وليس انتهاء بما يحدث من مآس فاحشة، مثيرة للجنون، في أدلب وعلى الحدود المتاخمة مع تركيا. أنا أيضا لي شجوني وشكواي اليوم في صندوق بريدنا، منشور كبير من الصليب الأحمر موزع على الجميع، اختصر مأساة السوريين، كشعب منكوب تحق له الإعانة والإغاثة فقط، وليس كقضية عادلة، تنتهك بجدارة تحت سمع وبصر العالم كله. لا أنسى تلك المرأة الصومالية الضخمة، العريضة المنكبين، التي ربتت على كتفي بإشفاق ودهشة، عندما عرفت إني سورية، قائلة بافتخار وبصوت عال، نحن نذهب إلى المسجد في كل يوم جمعة، ونتبرع لكم أيها السوريون. وفي مرة أخرى، كنّا في سيارة تاكسي، نتحدث العربية، سألنا السائق الآسيوي بسذاجة، أي لغة تتحدثون؟ أجبنا، العربية.
ومن أين أنتم؟
من سوريا
بقي ينظر إلينا بدهشة واستغراب: أنتم من سوريا؟
ولما سألــناه عن سبب دهشته، أجـــاب بتردد وخجل، اعتقــــدت أن السوريين، أنـــاس غاضبون، يرتدون أسمالا بالية ويشحذون.
وفي وقت متأخر من ليالي باريس الباردة، اقتربت منا صبيتان في ملابس مرتبة ومحتشمة، وسألتا: تتحدثون العربية؟ كان صوتهما مترددا وحائرا.
نعم، أجبنا ببساطة من ينتظر أي سؤال، غير سؤالهما المفجع، نحن من سوريا، نحن جائعات. كان صوتهما منكسرا، وفي عينيهما ذل موجع
في الجانب الآخر من الصورة، يبدو الأمر أكثر تعقيداً، والأسوأ أنه ليس بإمكانك أن تبرر، لكن الأكثر سوءاً، أنه ليس بإمكانك أن تتهم أيضًا، فأنت لست بريئا في الحالتين، حالة مزدوجة معقدة، لن يستطيع فهمها إلا من عاش وذاق لوعة هذه الحياة البائسة في بلدنا المنكوب. سألتني صديقتي بعد أيام من مرور السنة الجديدة، أين سهرتم واحتفلتم؟ استمعنا إلى موسيقى موزارت في إحدى الكاتدرائيات الضخمة.. وأنتم؟
البلد سهر حتى الصباح، دمشق الحزينة، غدت مدينة لعوبا فجأة، تتغاوى بشجرة ميلاد ضخمة، وتتغنج في بهرجة المقاهي والأضواء والأغاني الهابطة، والسماء ضوّت ببروق الألعاب النارية.
وهل كانت الناس سعيدة؟
هذا ليس مهماً، السعادة لم تعد خياراً متاحاً. الناس ببساطة هنا، تريد أن تعيش اللحظة الآنية فقط، أن تفرح، لا يهم نوع الفرح، لا يهــــم إن كان حقيقياً أو زائفاً، ترمومتر الفرح انحدر إلى أدنى حد، نحن نعيش اليوم في ورطة حقيقية، نفتقد إلى الحد الأدنى لمقومات الحياة الطبيعية. هل هناك نمط عيش قادر أن يحقق أو يرد لنا بعضا من إنسانيتنا المهدورة؟
سكت، لم أجب، دماغي في سجن مقفل. فكرت بحزن، بما يجري على الأرض، ارتطمت بقناعة، أن الحديث فيه نوع من العبث، إنه من غير المسموح في هذا البلد وتحت هذه الظروف، النقاش بشكل عقلاني، فبينما نعيش صدمة تهديدات العالم بإلغائنا، نهدد بعضنا بإلغاء الآخر، الحرب ليست قتلا ومـــوتا يخطف الأرواح فقط، الحرب هي ما تخلــــفه من دمار في النفــــوس، في قـــدرتها على الاستيلاء على فضائنا الخاص، وتركنا أسرى نظريات استسهال المسلمات، السيئة الصيت والسمعة، التي تقود إلى كارثة الخضوع للمألوف، المكافئ للاستسلام، وهكذا.
قد يبدو كل هذا إعلانا مراً بالهزيمة، وارتطاما مفجعا بخسائر فاضحة. هو كذلك فعلا، لكنه أيضا اعتراف حر، مشروخ بالحقيقة، حقيقة طرية وصادمة، هازئة ومشاغبة، الشك بها لم يكن خياراً محتملاً. لم أكن بحاجة إلى استعلاء التفاسير الوجودية والكونية، المدججة بالفلسفة والتنوير، ولم أدع كافكا وفوكو وروسو ليدلو بدلوهم، لأفسر لنفسي وللآخرين، فجاجة هذه الحقيقة المتناقضة، أردت يقيناً بسيطا، ربما عزاء لأمنح شكوكي العاطفية، معانيها الحقيقية، يوجزها المعنى الموجود في مفردة محددة هي: العجز. هناك من يستطيع أن يعيش كل هذه التناقضات ويرقص فوقها، ويغني كمان، وبإمكان الآخرين أن يحزموا حقائبهم ويرحلوا.