
سماء غريبة ثانية
ها أنا تحت سماءٍ غريبة مرّةً ثانية
بنفس الوجه الذي عرفته طويلاً دون قصد
إذنْ وداعاً لكل الأقراط التي تقلَّدتِها لأجلي يا كارولين
وكذلك الثِّياب التي تفوح
برغبتك المجنونة في جسدي يا سوزان
وليالي السَّبت البعيدة بُعْدَ العشيقاتِ اللواتي مزَّقْتُهن بأسناني
وداعاً لميتشيغن الباسلة في دمي
ولأمطارِ الرَّبيعِ العاصفة وللمظلَّةِ المُهدَاةِ إليّ
من منال الكلدانيَّة الشَّهِيَّة الأثمار
لأنَّنِي لا أدري بعد
عن طعم الإناثِ المنسيَّاتِ في هذه الصَّحراء الحاضرة
وعن الألم المفترض منّي التدرُّب عليه هنا
ولا عن النِّساءِ المُلوَّنات اللاتي سيعرفنني لاحقاً
ويبكين عليّ أو رُبَّما أبكي أنا
مثلما كنتُ أفعل في ميتشيغن قبل القيامة
وبعد رحيلِ واحدةٍ للذهابِ إلى أخرى جارحة
سيكون من اللائق القول:
وداعاً للخيبات التي رافقتني مرغماً يوماً من الدَّهر
ليس لشعوري بفورة سعادة أتخيّلها الآن
بل لأخذِ نفَسٍ في لُجَّةِ خيباتٍ قادمة
لها طعمُ ملحِ البحر المجاور لغربتي الجديدة التفاصيل
ولأنَّني رجلٌ عمليٌّ
فسوف أبدأ التكيّفَ مع العثراتِ المُنتظِرة دورها في طريقي الطويل
عُقب ما قصصت زهور الدَّهشةِ المُشوكة من وجهي
ومات مخلوقُ الحنين الغبي في داخلي المكسور
لوطنٍ صار لا يذكُرني في أماسيهِ المقفلةِ على شجنِ القات
بعد أن قطعَ من غابةِ العمرِ أشجاراً كثيرةَ الأحزان
لهذا أظنُّ بأنَّ الألم سيكون مقدوراً عليه
كما لو كان سُكَّرِي في الدَّم ألاعبه بأنسولين التَّمنِّي وخافي الحظ
سيكون الأمرُ مختلفاً تحت هذه السَّماء الغريبة
على الأقل فقد صِرتُ أملك خبرة كافية لمُداراةِ هزيمة أراها
تنهض باتِّجاهي بِهمّةٍ عاليةٍ مشكوكةِ الأفعال.
عشاء القتَلَة
يرفعون الأنخاب عالياً ويضحكون
بينما النَّظرات مسلّطة على ربطات أعناقهم المُثيرة للجدل
قال أحدهم: "إنَّها قصَّةٌ طويلة ولا داعي لشرحها الآن!!"
تناول آخر آلة تصوير وأخذ في التقاطِ صُورٍ تذكارية
تُؤرِّخُ للحدث
السيِّدة التي كانت تعلّق على عُنقها عِقداً من الألماس المُزيَّف
قالت إنَّها سوف تتزوَّج بمن تحبّ بعد العشاء مباشرة
الرَّجلُ القصير أمرهم بالصَّمتِ لجدّيةِ الموقف!!
وبعد أن عرفوا مهمِّتهم غادروا المكان
والعشاء الفخم ينام في أطباق الكريستال الغالية
دون أن تلمسه يد
ذهبوا دون التلذُّذ بما يُظَنُّ بأنَّهُ حلال
وعندما انتهوا من قَتْلِهم الجاد
كانت رغبة قوية في النَّومِ تخامرهم أفراداً ومجموعين.
ناموا...
الرِّجالُ بربطاتِ أعناقِهم المُثيرة للجدل
المرأةُ بعِقدها الألماسي المُزيَّف دون زواج
القصيرُ بأوامرِه الصَّارمةِ لُزُوم الزَّعامة
النَّظارةُ المُتميِّزون غيظاً لرداءةِ الصَّوت
الشَّاهدُ الوحيدُ على المجزرة
الفيلمُ الذي تُحمَّضُ صُوَرُهُ الملوَّنة بجِدِّيّة لها رائحة اليود
نادلةُ الحانة آخر الشَّارع العامر بوحشتها المفتوحة على الذِّكرى
سُكَّانُ الحيِّ البعيد في احتفالهم بعيد ميلادِ شخصٍ مقتولٍ لا يعرفونه
بطلةُ السِّينما ذاتَ يوم المُفلسة بعد إصابتها بالإيدز
لاعبُ الكرة المُصاب بفتاق في السُّرَّة
الكلبُ الذي غادره صاحبُهُ ذاتَ محطَّةٍ ولم يَعُد
البنتُ التي تنتظر عشيقها الخائن منذُ ألف امرأة
الشُّرطي الذي وضع دفترَ المخالفات والرَّشاوى
فوق برَّاد المطبخ الذي أهداه إيَّاه رجلٌ حُكم عليه بالإعدام
الزَّعيمُ الذي عطس رُغم حرارة الجو
.......
ناموا جميعاً ولم يستيقظ منهم أحد!!!
ضراوة التَّخفِّي
كان سُعالُه قد وصل أسياناً
إلى تخوم قلعةٍ قديمة يُقبِّلُ أقدامها بحرُ العرب
سكنها جنُّ سليمان في طريقهم المبخر إلى بهجة همدان العالية
ذلك الذي يكتب القصائد لِنساءِ الخُرافة ولا يراه أحد
وعلى دَوِيِّ الصَّوتِ المجروح تأتي المرافئُ البعيدة
لتستحمَّ بآخر صرخاتِ بحَّارةٍ أغرقتهم رياحٌ موسميَّة آفلة،
فخورةٌ بأشرعةِ التِّيه التي حاكها قراصنةٌ محزونون
وُلِدُوا في الشَّمالِ الشَّرقيِّ للبحر الأحمر.
كلُّ ليلٍ كان يأتي بِسُطورِهِ ومواويلهِ المَنْسِيَّة عن قصد مُبيَّت
ليُضيءَ سرمديَّةِ الرّبع الخالي من الأوهام
محلقاً في سُعَالِهِ المألوف مثل نورسٍ فاجأته غوامضُ الجهات
قِيْلَ إنَّه واحدٌ من آخرِ السُّلالاتِ المُتهكِّمةِ من صبوةِ الخوف
قِيْلَ هو أغنيةٌ بائدة مُصابة بسلِّ التمنّي وحامض التَّساؤل
قِيْلَ عقابٌ وثنيٌّ فرَّ من تسابيح معبد الشمس عام الفيل!!!
وحدها طيور السُّرات الهاجعة على تفاسيرها المبهمة تعرف قصَّته
ولذلك فهي تُواصل التَّحليق تِباعاً باتِّجاه سِرِّ الجنوب
المُخبَّأ في حوصلةِ فينيق ينتظر قيامته من رماد المَسدِ والزَّيتون
بحثاً عن مَهَبِّ الإيابِ المُقَنَّعِ بشفرة التَّعاويذ التي قد تعتريه
باتِّجاه راعيةٍ سبئيةٍ بلغت الحُلمَ قبلَ ليلةٍ قمريَّةٍ في وادي حضرموت
تهشُّ على أغنامِها بسيرة الأفذاذ النَّائمين على مقاتلهم في ثمود.
من
هو
وكيف صار منارة قَتبانِيَّة تسامر واضح المحيط الهندي كلَّ شهر
في مواقيتِ الأمطار المُنهمرة بقرارٍ رَجْعِيٍّ فَرَضْتْهُ بداهةُ مناخٍ مُشاكسٍ وملعون
لماذا سُعالُهُ المشروخ الأحزان يشقُّ قَفْرَ الأوديةِ
حتى يسمعه صِبيةٌ يبحثون عن ثارات لا تعرف النِّسيان؟!
مَن دوّن أسفاره
ورقم بقايا الخُبز ويابسِ التَّمرِ في جعبته وجرَّةِ الماء الفارغة؟!
من علّمه تضفير المقاليع الجلد والسفانا ليقذف بها
أقراش البحار القريبة من هجعة "لار"
لماذا لزَّ نفسه عُنوةً إلى تخفٍّ ضارّ ولم يره إنسانٌ حتى الآن؟!
*شاعر وقاص وروائي يمني أمريكي