النخبة العارية.. سقوط مقولة فصل النص عن صاحبه

2020-02-16

مها حسن

يتلقّف الكثير من المحسوبين على المشهد الثقافي، باستعلاء، عبارة الكاتب الإيطالي أمبرتو إيكو واصفاً "فيالق الحمقى" الذين يملأون مواقع التواصل الاجتماعي، بأنهم غزو البلهاء. لكن هؤلاء أنفسهم، والذين يقيسون العالم بمسطرتين، لا يصلون إلى زُهد إيكو بهذه الوسائل، ولغته المختلفة، لتظهر هذه الفئات المحسوبة على النُخب العربية، بشكل لا يصدّقه أحدنا، وكأن هذا الشخص الذي قرأنا له، أو حضرنا معرضه، أو فيلمه، يتحول إلى شخص أقل من عادي، يشتم ويستعمل ألفاظاً بذيئة في الرد على خصومه، كأنه لم يقرأ كتاباً في حياته، أو لم يطّلع على أية قيمة إنسانية تتعلق باحترام الذات، واحترام الآخر.

حين يغضب هذا المحسوب على الوسط الثقافي، فيردّ على صبية بأنها نتيجة خطأ في عملية لم يُستخدم فيها الواقي الذكري (أستعمل جملته بتصرف وبكلمات مخفّفة)، ويستعمل ألفاظاً تدل على احتقاره للمرأة، فهو يكشف، في غضبه، عن مخزونه الثقافي الحقيقي، الذي يحاول تزييفه، وهو في حالة الهدوء والسيطرة النفسية على انفعالاته.

إن صدمتنا، نحن القراء، بهذه النماذج التي اعتقدنا بأهمية موقعها وتأثيرها في المشهد الثقافي، تجعلنا نفكّر بإعادة النظر في مفهوم النخبة، بعد أن عرّت مواقع التواصل شخصية المثقف، الذي ربما لا يتوقع أمبرتو إيكو، أن يحدث العكس في العالم العربي، حيث العقلية الاستبدادية وتماهي المثقف مع نظام الاستبداد، تحوّله هو، أي المثقف، إلى أبله، وليس العكس.

إن المسافة القديمة بين المثقف والجمهور، صنعت له تلك "الهالة"، لكن خروجه على مواقع التواصل، دون "ربطة عنق" ومظهر منمّق ومحضّر له مسبقاً، وتلك التلقائية والآنية للجدال مع جمهور الفيسبوك، بكافة فئاته، من مثقفين وعاديين، أظهر وجه المثقف الحقيقي، الذي أخفاه طويلاً، لنشهد أمثلة كارثية، عن تفكير سوقي وآراء متخلّفة تتعلق بالنظرة إلى النساء والطوائف والأقليات والميول الجنسية والإثنيات.

إعادة النظر في مفهوم النخبة

هل كان المثقف صنيعة أنظمة الاستبداد؟ وهل حين ثار عليها، كانت ثورته مجرد تقليد أو موقف كيدي أو ربما "موضة" تساير السياق؟ لأننا نرى أن هذا المثقف المنضوي في تيار الثورة ضد الاستبداد، لم يتخلَّ عن بذور تربيته المستبدة، في ظل القيادات "الحكيمة" للأنظمة التي عاش في كنفها، وتحت مظلتها الحامية، وساهمت في صناعة صورته آنذاك.

لم يكن الجمهور، الذي يدعوه إيكو بفيالق الحمقى، يعرف ماذا يدور في الكواليس الداخلية المحظورة عن الظهور العلني، واللغة التي تستعملها هذه "النخب" في دوائرها المغلقة. لكن سقوط المسافة بين المثقف والجمهور، عبر الخطاب المباشر والآني، كشف عن هذا الوجه التلقائي، الذي تفشل خلاله، ألاعيب التقنّع بحماية المثقف الكاذب، لتسقط هذه الأقنعة، من أولى عبارات الاستفزاز، أو مسّ "الأنا" المريضة والمتضخمة، ليُطلق صاحبها تعابير تتقاطع مع تفكيره الأصلي، المخفي خلف أقنعة حمته في زمن الثقافة الورقية.

كأن تلك الحقبة الورقية كانت بمثابة "البادي كارد" للمثقف الذي كان يتدبّر أمر رسم ملامحه ولغته، ضمن نصّ وأداء، يتم مراجعته، وتدقيقه.. أما هذا الظهور العلني، لثقافة المشافهة، والاحتكاك السريع بين المثقف والجمهور، فهو أكبر وسيلة لكشف التزييف والافتعال، وهو كذلك الوسيلة الإيجابية، لإظهار الوجه "الديمقراطي" الحقيقي، لشخص يقبل بالحوار، رغم الاختلاف، بلغة أنيقة وهادئة: اللغة ذاتها التي كان يستعملها هذا الشخص خلال سنوات أدائه، بوصفه أحد نماذج النخبة.

لهذا صار الحديث اليوم عن مفهوم النخب، قديماً ومُستهلكاً، وصارت سلطة الجمهور أقوى من السلطة السياسية أو دوائر صناعة صورة المثقف السابقة، وفق توجّهات سياسية، فصارت "فيالق الحمقى" قادرة على منح أو سحب أي وصف لهذا النموذج المُكرّس غالباً، لا بسبب نصّه أو مُنتجه، إنما بفضل تعاليه وبرجه العاجي، والمسافة الآمنة التي كانت تفصله عن الجمهور.

لم يعد هذا الجمهور اليوم، يتقبّل رسّاماً بارعاً في الفن، يتطاول على حقوق النساء مثلاً، أو أن يتحدث كاتب مشهور ذو باع طويل، اُقتبست رواياته في السينما والتلفزيون، ليبرر ضرب الرجل لزوجته، أو غيرها من الأمثلة الطويلة، التي كشفت عن وجود الطرف الأحمق، داخل هذا النخبوي، الذي انفصل طويلاً عن نصّه والقيم التي كان "يتبنّاها" ادعاءً في منتجه غير الأصيل.

تحطيم سلطة النخب

استطاعت مواقع التواصل إذاً، تحطيم سلطة المثقف، وتمكّن شخوص هامشيون في هذا الفضاء الافتراضي، من الظهور بأداء أكثر نضجاً، وهم يقومون بتعرية المثقف، وإسقاط أقنعته على العلن.

لم يعد المثقف اليوم يتمتّع بحماية أصحاب القرار السياسي، الذين يمنحون كاتباً ما، زاوية ثابتة في جريدة تابعة لنظام يواليه هذا الكاتب، أو ساعة تلفزيونية ثابتة، يحصل عليها، لا لمهارته وإنجازه، بل لاتفاقه السياسي، والإثني أحياناً، مع النظام الحاكم لهذه المحطة.. بل صارت شرعيته مستمدة من هذا الجمهور، القادر اليوم على عزل أي مثقف من منصبه، وتعريته بقسوة، وصارت مواهب احتواء الآخر وفهمه، لدى المثقف، إحدى الوسائل النقدية والمعرفية التي تحميه من سلطة الجمهور.

لم يعد التحصّن في البرج العاجي خياراً مقبولاً اليوم، ويتوجب على أبناء النخب، إما العزلة الحامية، مع قسوة التنازل عن " ليبيدو" أو متعة تحقّق الأنا، أو الانخراط مع الجمهور وفق تربية حديثة، حوارية، ديمقراطية، متعادلة، لا يشعر المثقف من خلالها، أنه الطرف المنتصر مسبقاً، لأن نتاجه يحميه، بل عليه أن يراهن على أدائه الإنساني، ومواقفه وأخلاقه..

بهذا تسقط مقولة فصل النص عن صاحبه، إذ يبدو الفصل بينهما، في زمن الاطلاع الفوري والمباشر على تصريحات المثقف ومواقفه، بمثابة النظر إليه بعين واحدة، وهي رؤية قاصرة: لا يمكن أن نرى بعين نصّ المثقف أو مُنتجه المميز، وبالعين الأخرى، سلوكه الحياتي الفجّ، بل يحق لنا الذهاب بعيداً لتفكيك صورة المثقف، للتساؤل إلى أي حد يمكن لشخص يتمتّع بفكر ذكوري استعلائي كاره ورافض للآخر، أن يقدّم إبداعاً يساهم في صناعة المعرفة والجمال.

من بديهيات القول إن السينما والرسم والأدب وكافة الفنون الأخرى، جاءت لتعبّر عن قلق الإنسان، وعن هواجسه وعن توقه للقيم التي تخفّف من آلامه الوجودية أو الاجتماعية، ولتصنع مساحة جمالية، تساهم بشكل ما، في "إنقاذ" الفرد، وربما المجتمع، ولكن حين نرى أن (باب النجار مخلوع)، وأن الكائن الذي يُفترض منه تقديم مفاهيم جمالية، ومعرفة إضافية، وخلق مساحات من التساؤل والتفكير والمتعة، ينقصه الموقف الإنساني، فإن مُنتجه يوضع موضع التشكيك والتساؤل، والتعرّض لشرعيته من قبل الجمهور ذاته.

من الصادم للكثير من المتلقين للمشهد الثقافي، أن يروا هذا الشرخ لدى نُخبهم، والانفصال بين المادة التي تقدمها هذه النخب، وبين سلوكها الحياتي، وكأن مواقع التواصل اليوم تقلب الصورة، ليصرخ الجميع، كما فعل ذلك الطفل: لكنه عارٍ، الملك عار! فتسقط أقنعة الزيف عن المثقف، الذي عليه اليوم، إعادة النظر في تربيته والبحث عن بذور الاستبداد في داخله، ربما يفاجئ جمهور، ويفاجئ نفسه، بنص جديد مختلف وأكثر إبداعاً، حين يخرج من عباءة الصورة المزوّرة التي عاش فيها، على أنه من النخب المتعالية، التي تتمتع بسلطة احتقار كل من هو عادي، وغير محسوب على تياره النخبوي المهمّ.

المجد اليوم للعاديّ الذي يشتغل على نفسه، ويفكك أدواته النقدية لتطوير ذاته، وليس للمثقف المتكلّس الذي آمن بأنه أنهى دروس التعلّم، وتشبث بمكانة المثقف ـ القائد ـ الخالد.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي