«تركيب آخر لحياة وديع سعادة»: شَعْرنة السيرة المتشظّية

2020-02-15

عبداللطيف الوراري*

في أحد نصوص وديع سعادة الذي يعنى في مرّات غير قليلة بإدماج ملفوظات ميتا- شعرية كاشفة في صميم عمله الشعري، نعثر على «بيان/ مانيفستو» لمثل هذا المشروع مُبكّرًا. يقول:

هناك مشروعُ قصيدة

ضفّة

أفرشُ عليها السمكَ الواجف في رأسي.

إذهبي

يا امرأة سوداء على بابي يا مراكب

إذهبي

أحلامي كافيةٌ لأغلق هذا الباب

وأنام

مياهي كافيةٌ

لأغرق. (ليس للمساء إخوة)

نفترض البعد السيرذاتي في شعر وديع سعادة، و نُرجّح حضوره المفارق داخله، حتى إن لم يكن يعلن عن ذلك بصريح العبارة على غلاف أحد أعماله، إلا أنّه لا ينفي ذلك في حواراتٍ معه. فالشاعر انخرط مبكّرًا في استخدام عناصر ووقائع من سيرته الذاتية، إذ نعثر في معظم أعماله الشعرية، وتبعًا لمعرفتنا القبليّة بشذرات من حياته في شبطين ومنافيه المتعدّدة وعلاقته بأبيه وأمّه، التي نلتقطها من تلك الحوارات ومن بعض ما كتبه نثرًا أو ما ينشره على صفحته في الفيسبوك، على تمثيلات «مرجعية» وبوارق كامنة من تلك السيرة، مثلما في دواوينه «مقعد راكب غادر الباص» (1987) و«بسبب غيمة على الأرجح» (1992) و«محاولة وصل ضفّتين بصوت» (1997). وقد نثر الأنا على محوري الحضور/ الغياب شواهد من سيرته بلغة شفّافة وبسيطة حينًا، وحينًا آخر باروديّة وساخرة، تترسّم منطقًا آخر هو أقرب إلى التشذير وإعادة التشكيل منه إلى الانتظام والوفاء الإحالي، كما في السرد عادةً. غير أنّ هذه الشواهد السيريّة التي نغنمها بين نصّ وشذرة، ورغم ادّعائها مطابقة أفعال المعيش، إنّما هي تخضع للنظام الشعري في النص وتُدْمَج في بناء خاصّ يقع خارج المرجع والخطاب الكرونولوجي المنطقي.

 إعادة تركيب حياة

آثرنا ـ هنا- أن نتوقّف عند عمله الشعري «تركيب آخر لحياة وديع سعادة» (2006)، ليس لأنّه فقط يستدعي السيرذاتي ويستثمر مقتضياته الممكنة نصّيًا، بل إنّه يبنيه من جديد ويعمل عليه تخييليًّا، بقدر ما هو يحاول إعادة تركيب «الحياة الداخلية» من جماع عناصرها الدالّة، ووفق تمثُّل الذات لشذرات خطابها الباني داخل ما نسمّيه بـ«السيرة المتشظّية»، السيرة التي تتوزّعها صور، ومشاهد، ومحكيّات، وأحلام، وهلوسات، وخيبات، وفجائع، وقد ظلّت بقاياها «الغارقة» تصطرع وتتخمّر في لاوعي الأنا، قبل أن تجد إمكان عيشها من جديد، وتجد شكل كينونتها الجديدة من خلال انتظام الذات في خطابها. تعلن ذات الشاعر عن نوايا هذا البناء ابتداءً من العنوان الواضح إلى حدّ الالتباس، إذ سرعان ما تُدْمجها في سياق غريب ومفارق ينبثق من «نقطة غريبة/ بين الحقيقة والوهم»:

«مرّ ظلُّه على كائنات جديدة

لا أسماء لها ولا أشكال

لكنَّها وُلِدتْ

هكذا سَهْوًا

في نقطةٍ غريبةٍ

بين الحقيقة والوهم».

  نفترض البعد السيرذاتي في شعر وديع سعادة، و نُرجّح حضوره المفارق داخله، حتى إن لم يكن يعلن عن ذلك بصريح العبارة على غلاف أحد أعماله، إلا أنّه لا ينفي ذلك في حواراتٍ معه

فهي الذات الحاضرة التي تحيا في الحاضر، أي تحضر بوصفها نصًّا مكتوبًا في السيرة وعبرها، في «نقطة التقاطع بين التذكُّر والتخيُّل» حسب تعبير هيو ج. سلفرمان. فهذا الإدماج المتمفصل ـ والمتكاثر للغاية – بين الحقيقي والخيالي، يتطلّب الاثنين معًا في الوقت نفسه، لأنّه، عليه، يغدو الفعل السيرذاتي المفترض سيرورةً تُعرّض بناءه لخطر التشظّي باستمرار، ليس في التذكُّر وحسب، بل في الرؤية كذلك: لا ينظر الأنا إلى نفسه، إلى المرآة الجامدة، ولكن بالأحرى يتأمّل في الماء الذي يتدفّق داخله وينسرب مثل نبع إلى الأعماق التي تسيل بالكائنات، وتعطي لمعنى ما في حاضر الكتابة. من هنا، مزيّة «الظل» بما هو قرين العبور، والجريان، واللااستقرار والتقلُّب، بل الخيانة بحدّ ذاتها للهويّة الأصل، ولحدود الزمان الفيزيقي أو المكان في بعده الإقليدي على حدّ سواء:

«ليس النبع بيننا ولا المجرى، ولا مسافة بيني وبين البحر

يولد النبعُ منّي والبحرُ منّي، وليس عليّ أن أجري لكي أصل

هناك هو هنا

والأرض الأخرى تمشي قبالتي ولا ألتفتُ إليها.

لم أكن أجري في نهر، كنتُ بمحاذاة الأنهار أنتظر مائي

أجلس على لا مكان، ولا يجلس معي زمن»

 سوائل السيرة

 يمثّل نص «تركيب آخر لحياة وديع سعادة»، الذي تحمل المجموعة الشعرية العنوان نفسه، وهو النصّ الأطول داخلها، النواة الأصلية للسيرة التي تبدأ في التشكُّل في الحال، أو في البال بالأحرى، «بمجرّد نظرة»»، بمجرّد ما تسرح العين في ما حولها وتستقطب الكائنات الحميمة إليها، فتحاورها وتدمجها في هويّتها المحتملة الجديدة التي تخرج من حالتها الهُلاميّة حيث العدم والغياب إلى حالة الحضور في موقف الذات الحاضرة وسكونها وصمتها. «بمشيئة البالـ« الذي ينهض بفعل الإيجاد، ويضارع صنيعه فاعليّةَ الخيال في عمل الكتابة، يجري استدعاء كون شاسع من الكائنات والعناصر والأشياء، ومن مسافات بعيدة، وهذا الكون «السائل» يتقلّص باستمرار إلى أن يصير مجرد حدقة، بما هي الصورة المرآوية لمعنى اغتراب الذات، وعزلتها التامّة ونفورها من حدثان العالم الخارجي، ثمّ تتجمّد بعد ذلك في نقطة كدلالةٍ على الاندثار والتشظّي والعدم:

«ها هو الكون يجلس أخيرًا على حجَر نظرتي

كوني الصغير الخفيف الذي يسعه حجر، وتحمله نظرة.

آتٍ من هناك، فارًّا، كي أستريح على حجر

آتٍ من الذي كان فسيحًا كي أجلس على نقطة

على شيء نحيل، لا هناك فيه ولا هنا.

آتٍ من مساحاتٍ، لكثرة ما كانت شاسعة لم أكن أرى شيئًا منها

إلى حَدَقةٍ صغيرةٍ أعرفُ كلَّ سكّانها.

آتٍ من عيونٍ كثيرة

لكي أجلس في عيني».

تنتهي الذات إلى حالة تصوُّف خاصة، ولكن ليست على شاكلة ما نعرف في أدب الكرامات، بل هي بحدّ ذاتها خلاصة دَرْسٍ قاسٍ من الحياة التي عاشتها، لا تخلو من سخرية وتجديف وتعابث، فالعين هي المنتهى والملاذ وأخطر ما في الإنسان، فـ»رموشُها دروبٌ للعابرين» وعل جفنها «غبارُ كلّ الأكوان». ولهذا، تبذل الذات، حتى وهي في موقف سكون وهباء وصمت، قصارى جهدها التخييلي لترى نفسها على نحو جديد في مرايا عالمٍ يتهاوى، وآخر يتشكّل تلقاء عينها، وذلك عن طريق العدّ التنازلي/ العمودي لهذا الكون «السائل» وغير المحدد والظاهر للعيان، الذي يبسط المخلوقات الغريبة في تحوُّلها، والموجودات في حدثانها، والأحداث والظواهر المادية واللامرئية في تتابعها، بشكل لا انعكاس له إلّا في ذاته، ولا حدود له إلا في ما يقيم في الإنّية بين إغماضة العين وانفتاحها، كما الماء الذي يتدفّق وينساب إلى الداخل باستمرار: هكذا تلحق بالنّبْع فراشاتُ الخيال، والنظرات الدامعة، والروائح الشاردة، ولهاث الذكريات. إنّ الشاعر، والحالة تلك، لا يتذكّر، أو بالأحرى لا يرى عيانًا وعلى البال، إلا عندما تمرّ على باله نسمة أو أريج أو نأمة هواء، كأنّها تبعث فيه ذكرى غامضة، وفي مكان معتم وغير ثابت لا يشرق إلّا بالعين، بما هي مكان العبور والحداد، وتغمض على الحوافّ والغبار، حيث لا شيء مؤكد. فالكلّ مُشوَّشٌ عليه بهذه الحالة التي يتقاسمها الوعي والهذيان، بشكل يثبت اللايقين وعبثية الإمساك بالحقيقة، وبالتالي تكشف العودة إلى الذات أو التطابق معها عن كونه محض وَهْمٍ ومشكوكا فيه، فتعود هذه الذات بعدما تتخلّص من «الحمولة الثقيلة»، إلى التلاشي والانغمار في العدم:

«قال سيعيد تركيب حياته كي تُشْبه النسيم

وتتناسبَ مع الأشكال والأحجام كلّها،

رمى أعضاء وأفكارًا وأهلًا وأمكنة

رمى جسدًا وقمصانًا

كرَّ خيطان نفسه وبكَّلَ حياتَهُ

بِزِرِّ ريح

ودخلَ ثقوبًا

دخلَ ظلامًا

وما عاد رأى كيف يعيد

حياكة نفسه».

وهي لا تجد نفسها كهويّة محدَّدة وحسب، بل تصير آخر، فراغًا ينزع إلى فراغ. وهكذا، لا يبحث أنا الشاعر واسمه الشخصيّ، متوتّرًا بين ضميري الحضور والغائب، عن وضوح الهوية الجامعة والدائمة، التي تنشدُّ إلى ماضيها وترتبط بحدث من الأحداث، بل يعيد خلق الهويّة ويخترعها من ذوات ممكنة في ما هو يجرب أكثر من حاضر وأكثر من مستقبل ممكن، وعليه تصير هي نفسها ذاتًا مُتخيّلة لا تملك وعيها إلا في اللحظة الحاضرة، وإذا عادت إلى ماضيها الشخصي، أو غمزت إليه بعين ثالثة، فلكي تصير السيرة في نهاية الرحلة وخضمّها مبدأ ابتكارها الخاصّ، مبدأ الفراغ والمحو والعدم:

«لم يكن هو الذي مَرَّ

ولا ظِلُّه

على كائنات جديدة

فقط كانا واقفين

في نقطة غريبة

بلا كائنات»

 ارتجاف الملفوظ

أمّا اللغة، في هذا السياق، فهي تؤدي وظيفة تخييليّة أكثر منها وصفية واستعادية، فالشاعر لا يستعير أي قناع، أو لا يدّعي بأنّه يمتلك حقيقة شخصية، وبالتالي يمنح للغة يكتب بها قوّةً تعزيميّةً، عندما تتحوّل في يده إلى آلية تحويل ولعب حُرّ لقوى تخيُّلية ونوازع حلمية واستيهامية ملازمة لشرط الذات الإنساني. إنّها تحضر ليس في ما يقوله الخطاب بشكل مباشر وصريح وحسب، وإنّما في ما ليس يقوله، أي في الصمت والفراغ، في اللهاث وتبدُّد الصوت:

«يتأتئ مقاطعَ لغةٍ ومقاطعَ مسافات

ويستعين بالفراغ الذي حواليه كي يتّكئَ عليه

وبالعصا التي قصَّبها في نومه

كي يمشي»

لغةٌ ضدّ اللغة، لغة «لَثْغ على الحافّة» و«تأتأة خارج الكلمات»، وكلُّ ما يجري فيها أو تُحيل عليه لا دلالة لها إلّا في ما يُومِض به السياق ويُفجّره من الداخل. لغةٌ تتسلّى، وتتنزّه، وتتقدّم على الكلمات والأشياء في آن، وهي تعمل ـ حسب تعبير دوبروفسكي – «لصالح الهذر الشعري»:

«أطلقَ كلماتٍ في الهواء وراح يلعب بها، مثل بالونات

يشدُّها ويرخيها… حتى انفجرتْ

واختلطتْ أحرفٌ بأحرف وضاعت أحرف وما عاد يعرف

كيف يجمع الأحرفَ ولا كيف

ينطق بكلمة»

وبعد، فقد أعاد وديع سعادة بناء حياته من جديد، وحياته الداخلية تحديدًا، وركّب عناصرها النصّية تركيبًا كيميائيًّا حَوّل الأصل الإثنوغرافي إلى عمل تراجيدي حسب ما يمليه المحتمل السيرذاتي من شطب ومحو وانتهاك من جهة، وحَوّل لغة تمثيله داخل الخطاب إلى حساسيّةٍ أسلوبية ترتفع بالغائب واللامرئي إلى شهادة إدانة للحاضر، وتُمجّد الفراغ والصمت والهباء، وتنتهك المُقدّس والمجمع عليه بالسخرية والهذر، وتؤنسن الطبيعة بكائناتها وجماداتها في نسيج الكتابة وعبرها.

ولم يكن أنا الشاعر يسعى إلى ضبط انسجام الحياة كما مرّتْ في الأصل، وإنما أراد إعادة تشغيل مهملاتها وبقاياها الطافية، فكانت كتابة السيرة المتشظّية التي يُجسّدها ديوان «»تركيب آخر لحياة وديع سعادة»، ورُبّما غيره من أعمال الشاعر نفسه، تلملم ما تبقّى ـ وما أكثره – ضمن المنسيّ والمكبوت والمحلوم به، الذي لم يتحقق لعوامل مفترضة، وعبرها يلجأ الشاعر إلى تشذير معطيات السيرة نصيًّا داخل النسيج الشعري لصالح «هويّات» الأنا وهويّة الكتابة، بما فيها من تهويمات وإسقاطات وأحلام يقظة وغير ذلك مما يُشكّل العوالم الرمزية والممكنة لأفعال الكائن الإنساني وعقله ومُخيّلته. إنّ السيرة لا تتشظّى إلا بمقدار ما يصعب على الغابة أن تجرد لائحة بأشجارها ونوع تربتها ولون هوائها و«هويّات» من دُفِنوا تحتها، وهي نفسها غابة اللاوعي الفردي الذي ظلَّ يتغذّى من تجربة الحياة ويعتصرها، هنا والآن.

 

  • شاعر مغربي






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي