المفارقة الأمريكية والمقاومة: قراءة ثقافية تاريخية

2020-02-05

رامي أبو شهاب*

■ تتخذ المقاومة في إطار تاريخي العديد من الأشكال والمظاهر، كما يذكر روبرت يونغ في كتابه «ما بعد الكولونيالية»، حيث إن قراءة في تاريخ حركات المقاومة للاستعمار سيجعلنا ندرك بأنها تبدو ـ في بعض الأحيان- أقرب إلى فعل ممتد في الزمن، حيث يذكر يونغ المئات من حركات المقاومة، وأنماطها المتعددة التي انتشرت، بدءا من الشاطئ الكاريبي مرورا بافريقيا، وليس انتهاء بآسيا؛ ونعني الولايات المتحدة عينها، قبل أن تتحول إلى دولة كولونيالية، ولاسيما بعد انحلال النموذج الأخلاقي للقيم، التي روجت لها بوصفها دولة تنهض على قيم الحرية، كما جاء في إعلان وثيقة الاستقلال الأمريكي (1776) الذي وضعه الآباء المؤسسون. هذه القيم تحولت بمرور الزمن، إلى حبر على ورق، ومنها أشهر مقولاتها التي تنص على أن البشر خلقوا متساوين، وبأنهم منحوا حقوقا لا يحق التصرف بها، وهذا ما يعني أن الإعلان الأخير لصفقة القرن قد بدا جزءا من مفارقة ساخرة، حيث قامت دولة (الولايات المتحدة) بالتصرف بحقوق الآخرين (الشعب الفلسطيني)، وبذلك، فإن هذه عبارة الحرية، بوصفها نموذجا خطابيا للدفاع عن المهمشين لم تعد صالحة لتكون إحدى أهم القيم الأمريكية.

إن تاريخ المقاومة أمر لا يقاس بالأثر المعاين أو المنظور، فالمقاومة تكمن سطوتها في كونها تنتج عن أثر نوعي وكمي، يمتد عبر مئات السنين، وهنا ينبغي التركيز على الأثر التربوي، لتمكين النموذج المقاوم عبر منظومة تعليمية تثقيفية تنزع إلى تمثل الرموز، كما خلق الوعي الذي يعدّ أكبر سلاح للمقاومة، أمام النماذج الخطابية والإجراءات التي تهدف إلى تصفية وجود أمة ما. إن حركات التمرد في الكاريبي التي قادها العبيد، امتدت ما بين عامي 1519- 1844، وهذا يشمل أيضا انتفاضات مستمرة في كل من أيرلندا، والهند، وافريقيا، وفيتنام والجزائر، وغيرها الكثير، غير أن قاسمها المشترك الإيمان بحتمية التحرر.

لا ريب في أن اشكال المقاومة تتخذ بعدا فاعلا، حين تنشأ عن وعي يهدف إلى استثمار القراءة التاريخية لحركات التحرر في العالم واستلهامها، ما يعني أن فعل الانقطاع عن النموذج التاريخي ربما يدفع إلى تناسي حجم التضحيات، التي قدمتها أسلاف الشعوب المستعمَرة، بما في ذلك الشعب الأمريكي، الذي ناضل من أجل التخلص من الاستعمار، ومن أجل الحرية، وعليه فإن ثمة حاجة لإحداث تغير في الخطابات التي بدأت تفقد زخمها في السنوات الأخيرة، مع إطلاق عملية السلام، ما أفقد قيم المقاومة وآلياتها زخمها في الحالة الفلسطينية، وهي التي كانت تعني شكلا من أشكال الرفض للحلول التي لا تستجيب للحق المشروع، وهنا ينبغي التأكيد على أن المقاومة الثقافية، لا تقل شأنا عن أي شكل من أشكال المقاومة الأخرى، فالوعي الثقافي المقاوم ربما يقود إلى شكل من أشكال تعطيل الانسياب الطبيعي لوجود المُحتل (العدو)، خاصة في ظل تعميم الاحتجاج، وهنا ينبغي التأكيد على دور البورجوازية الوطنية، التي ينبغي لها أن تكون أكثر وعيا بحدود دورها، إذ يجب أن تتخلى عن أدوار النخب، التي تسعى لتحقيق نوع من أنواع الواقعية السياسية، وعلة ذلك أنها قد تتسبب في منهجها هذا بكسر حلقة الوعي المقاوم للشعب. وهذا ربما يدفع إلى تصفية الوجود، استجابة للواقعية التي في معظم الأحيان لم تنجح في تمكين وعي تحرري حقيقي، فحركات التحرر لم تنشأ يوما إلا من رحم الحلم، في ظل افتقارها إلى القوة المادية، غير أن روحها لا يمكن أن تنطفئ.

 

إن مقولات الحداثة والحرية ينبغي ألا تختفي من نماذج الخطابات المقاومة؛ لأن الوعي الكوني مسكون في بعض الأحيان بهذه المقولة، ولكن نماذج المقاومة ينبغي أن تتخذ شكلا من أشكال رفض التصفية على مستوى الوجود

نواجه نوعا من العناد الكولونيالي، وهذا العناد لا يمكن أن يواجه إلا بعناد مقاوم، ومن أهم أسسه المقاومة الثقافية، حيث يقول روبرت يونغ: «إن الدور المركزي للثقافة في مثل هذه التطورات يشكل سمة خاصة لتاريخ مناهضة الكولونيالية: كانت الفاعلية الثقافية التي تُحشد غالبا إلى جانب تطور أنماط المقاومة، التي تقبل بها القوة، مصممة لتعكس الفرضيات الأيديولوجية، والتبريرات والشعور بالدونية، التي نشرها المستعمرون في الشعوب التابعة». وهنا تتخذ أنماط المزج بين المحلي، وقيم الحداثة بوصفها عناصر تهدف إلى الإفادة من هذه القيم، حيث ينبغي أن يتجه فهم المقاومة بوصفها جدلا، بين أدوار النخب التي ربما تسعى لتمكين المستعمر من القيام بعمله، وفي هذا الحالة تقع المسؤولية على هذه الأدوار، كما في الوضع الفلسطيني، بالإضافة إلى سياقات محلية عربية، تسهم في تذليل العقبات أمام المستعمِر، أو العدو للحصول على نواتج أو مكاسب ما، غير أن الحتمية التاريخية التي لا يعتريها الشك ستقود إلى نبذ هذه الجهود، بالإضافة إلى تصفية النخب المحلية والعربية المشبوهة، كونها ستكون أداة بمجرد أن ينتهي دورها ستتلاشى بشكل مخز.

إن مقولات الحداثة والحرية ينبغي ألا تختفي من نماذج الخطابات المقاومة؛ لأن الوعي الكوني مسكون في بعض الأحيان بهذه المقولة، ولكن نماذج المقاومة ينبغي أن تتخذ شكلا من أشكال رفض التصفية على مستوى الوجود. ولعل هذا يستجيب إلى ما يذكره جاك لوغوف في كتابه «التاريخ والذاكرة»، حيث يرى أن المجتمعات المستعمرة تسعى لاستعادة امتلاكها لذاتها، وإلى الاعتراف بالموروث. والموروث هنا يعني نضالا مستمرا، ينبغي أن يشكل خزانا معنويا. إننا أمام معضلة معرفية تنهض على أهمية التاريخ، وأعني تاريخ المقاومة، التي تآكلت نتيجة حركات التحديث والعولمة الثقافية، التي قادت إلى أنماط من الارتخاء الكسلي، والاستسلام لنواتج العولمة، وقيمها الاستهلاكية، التي أفقدتنا فعل الاتصال مع خطابات المقاومة، ورمزيتها، خاصة في العقود الأخيرة، على المستوى التعليمي والثقافي، وهنا ينبغي استرجاع خطاب الغرور أو (الشوفينية) الذي يعلي من شأن الذات، بدءا من الثورة على المستعمر الإنكليزي في الثلاثينيات، وانتهاء بآخر نموذج مقاوم شعبي، ونعني الانتفاضة الفلسطينية ضد الاحتلال.

إن تلاشي الخطابات التي تتصل بهذا النموذج، أدى إلى تبريد اللغة، وأشكال الاحتجاج، إذ إن فعل الصراخ قد يبدو أحيانا شكلا من أشكال إزعاج المحتل، والمتآمرين؛ ولهذا على الفلسطيني ألا يتوقف عن تذكير العالم بأنه موجود، وأن قضيته لن تتلاشى من الوجود، فرئيس الكيان الصهيوني لم يتوانَ عن تذكير ألمانيا بمسؤوليتها التاريخية عن المحرقة، وهنا يمكن أن نقرأ دلالات ثقافية لإعلان صفقة القرن، التي أتت بعد أيام قليلة من الاحتفال بذكرى الأوشفيتس، وكأن ثمة نسقا مضمرا لاختيار هذا التوقيت، ليكون دعوة لتذكير العالم بالأوشفيتس، ولكن العالم يتناسى بأنه يسهم في إنتاج نموذج «أوشفيتس» جديد وقوده فلسطين وشعبها.

إن نماذج المقاومة الثقافية القائمة على الرمزية المتصلة بالغرور الخطابي لقوة الفلسطيني، ستصنع وعيا بالأنا الفلسطينية، فنحن أحوج ما نكون إلى مفاهيم القوة، وإن بدت لنا غير معقولة أو خيالية، أو أسطورية بعيدة، ولكن سياقات الزمن سوف يقودنا لها يوما ما، ففي بعض الأحيان ينبغي تعريف (العدالة) من منظور «ثراسيماخوس» في محاورة أفلاطون، حيث يرى الأول أن العدالة هي القوة، نزولا عند مقولة إن امتلاك القوة ونبذ الضعف ما هو إلا نموذج نيتشويا، ولاسيما حين يؤمن عدوك بمقولة القوة فقط؛ ومن هنا، تبدو قيم الاحتجاج في كل نماذجها الثقافية جزءا من قوة فاعلة للتعبير عن صوت الضحية، التي لن تتوقف عن إقلاق جلاديها والمتآمرين عليها على حد سواء. إن سقوط الفلسطينيين سيعني سقوط الكل بلا استثناء، فلا يمكن للفلسطيني أن يتجاوز أزمته، إلا بأن يخلق الأنا المتعالية بكل ما تعنيه من رمزية تجاه مقاومة الفناء الذي يدعو العالم لإنزاله عليه.

 

  • كاتب فلسطيني أردني









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي