القصة القصيرة جداً بين التضايف والتنافذ

2020-01-28

 نادية هناوي*

إنّ واحدة من التحديات التي تجعل كتابة القصة القصيرة غير يسيرة، على الرغم من قصرها، هي أهمية فهم مواضعات كتابتها سرديًا. ولأجل جعل هذه المواضعات مقولبة في إطار، سعى النقاد إلى تقنين القصة القصيرة، لكنهم اختلفوا في تحديدها وتعريفها كجنس لا لبس يطال إجناسيته، ولا شكوك تحوم حوله، وكإنجاز مفروغ منه توصيفًا ودراسة.

واتخذ هذا السعي نحو التقنين طابعاً نظرياً يهتم بتجريد العملية الكتابية، والتعامل مع المنطوقات بجملة قوانين تشرعن الاعتراف بالقصة القصيرة، جنساً أدبياً مستقلاً. ولم يكن التنظير لإجناسية القصة القصيرة مرتبطًا بالتنوع في المذاهب الأدبية، أو الاختلاف في التوجهات الكتابية، وإنما بدأ مع بداية التجريب في كتابتها فنياً في القرن التاسع عشر، وعند أهم كتّابها الذين أسسوا لها، وفي مقدمتهم أدغار ألن بو، الذي كان المنظّر الأول لها. وهو أيضا واحد من رواد كتابتها شأنه شأن تشيخوف وموباسان وآخرين، مثَّلوا الرعيل الأول المبشر بها جنسًا مستقلًا وفرضوها لاحقاً فعلياً.

وبالتقدم في كتابة القصة القصيرة ونقدها، صارت لها في الأدبين الروسي والأمريكي مكانة خاصة، وصارت القصة القصيرة الأمريكية أدبا شبيهًا بالأدب الإقليمي، كما حظيت بحاضنة نقدية غربية، مثَّلها الأدبان الفرنسي والإنكليزي اللذان كانا سباقين أيضا إلى احتضانها في الكتابة السردية.

وطبيعي أن تكون هناك بعض الاختلافات بين النقدين الأدبيين الأوروبي والأمريكي حول إجناسية القصة القصيرة مفهوما وتقانات واصطلاحات. فالنقاد الأوربيون لا يرون في جنس القصة القصيرة أي اضطراب أو تباين، بينما يرى النقاد الأمريكيون العكس فالقصة القصيرة عند فورست أنغرام حلقة قصة قصيرة، وهي عند روبرت لوشر ذات علاقة قربى وثيقة بالحلقات الملحمية ومتوالية السوناتا الشعرية والشعر الغنائي والقصة القصيرة ، وأن تفكك الروابط أعطى لها جاذبية وخلّد الوعي الأكبر بالإمكانيات الشكلية والإيقاعية والموضوعاتية البديلة، وألزم القارئ بخلق المعنى والتقريب بين الأجزاء.

وأكد آخرون أن الكتّاب الأمريكيين امتلكوا إنتاجية ملحوظة في كتابة القصة القصيرة، وأن وراء هذه الشغف في الكتابة سمة ثقافية يختص بها أدب الولايات المتحدة منذ القرن التاسع عشر، وما زال مثابرًا على الاستمرار فيها إلى اليوم، وهو توكيد بناء جمهورية موحدة من مجموعات سكانية متنوعة لتحقيق الوحدة المرادة أو المبتغاة. وانطلاقا من مسألة عدّ القصة القصيرة نصًا مفتوحًا، يغدو ممكنا تجريبيا تجاوز التقانة أو الشكل أو النمط، بحثا عن مقومات أكثر للشعرية.

وفي هذه الحالة الأخيرة تصبح القصة القصيرة قادرة على ممارسة الصهر والإذابة للأنواع التي تندمج بها أو تتضايف معها، كي تصير ذائبة فيها مشتركة معها ببعض حدودها، وقابلة لأن تنضوي في قصة قصيرة لتكون بذلك جنسا عابرا للأجناس.

والعبور بين الأجناس هو الذي يجعل التضايف بين القصة القصيرة والنوع الأقصر منها عبارة عن فاعلية تنافذية اندماجية، تصهر النوع الأقصر (القصة القصيرة جدا) مثلا في الجنس القصير (القصة القصيرة) فتنتفي أحقية عدّ (القصة القصيرة جدا) جنسا قائما بنفسه، كما تبطل محاولات البحث فيها عن شكل محدد أو قالب معين، أو القول بحدود نوعية وممكنات بناء موضوعية وتقولبات، أو ميزات فنية؛ فضلا عن فك الالتباس في مسمياتها، مع وضع حد لمسألة الوصف بـ(القصر) التي هي موضع اعتراض وشد وجذب بين النقاد. ويظل مجال الضم والصهر للقصة القصيرة جدا في القصة القصيرة متاحا على الدوام، بسبب سيولة القص فيها، وهو ما يحقق مزيدا من التضايف النوعي والحدودي.

وعلى الرغم من وجود بعض الاعتراف النقدي (بالقصة القصيرة جدا) بوصفها جنسًا لوحدها، ومهما كان أمر ترسيخ هذه الإجناسية متنوعا بالكتابة البحثية، أو بإقامة الملتقيات أو بتسمية النوادي الخاصة بها، أو بتخصيص جوائز خاصة بالكتابة فيها؛ فإن عدم أهلية القصة القصيرة جدا للتجنيس، تنبع من طبيعة شكلها ومحتواها، اللذين يجعلانها تتموضع نوعاً سردياً لا غبار عليه، يتمتع بمواصفات التغير والقابلية على التداخل والانصهار، لكنه لا يملك رسوخ الجنس ولا اختلافيته، فضلا عن مؤهلات التجنيس الأخرى، ومنها الاستقلال في الاكتفاء بقالب محدد ومعلوم.

 

لا يتوانى كاتب القصة القصيرة جدا من أن يجعل لحظة التأزم عبارة عن لحظة توهج، تفاجئ القارئ بلفتة أو نكتة أو نبضة أو لمحة، وبما يخرق معتادية الحدث المسرود التي سرعان ما تتعقد لتنفرج بالسرعة المفاجئة ذاتها، التي حلت بها

والقصة القصيرة جدا بوصفها نوعاً قصصيا تمتاز بالتكثيف والاختزال، والهدف من كتابتها إيصال فحوى فكرة ما أو توجيه رسالة معينة بأسرع الوسائل، من خلال التعامل مع اللغة تعاملا خاصا، يجعل لكل كلمة دورها الوظيفي داخل السرد. وهذا ما يمنحها جاذبية الشعر ومدلولية السرد وفاعلية التأثير والإدهاش.

وتتطلب كتابة القصة القصيرة جدا ثراءً معرفياً كبيراً، وبراعة في توظيف التقانات كاستعمال المفارقة والعجيب والذاكرة والحلم والفانتازيا والمونولوج والمونتاج، في مضمار حدث واحد أو اثنين، وشخصية أو أكثر، لتندمج جميعها في خيط سردي واحد قصير ومختزل قد يبدأ من النهاية لينتهي في البداية استرجاعا، وقد يبدأ من النقطة التي ينتهي فيها ضمن بناء دائري، وقد يكون بناء متناوبا جيئة وذهابا.

ولا يتوانى كاتب القصة القصيرة جدا من أن يجعل لحظة التأزم عبارة عن لحظة توهج، تفاجئ القارئ بلفتة أو نكتة أو نبضة أو لمحة، وبما يخرق معتادية الحدث المسرود التي سرعان ما تتعقد لتنفرج بالسرعة المفاجئة ذاتها، التي حلت بها، وهذا ما يجعلها قصة اللحظة المفعمة بالتحول والدهشة، ولذا سميت بالقصة الصاروخ. وقد يسأل سائل ما الذي يجعل القصة القصيرة مالكة للقطعية الإجناسية، بينما لا تمتلك القصة القصيرة جدا مثل ذلك، وكلتا القصتين تعتمدان الحكي وتتسمان بالقصر؟ لا شك في أنَّ هناك تنظيرات لعدِّ القصة القصيرة جدًا جنسًا أدبيًا، لكنها تبقى محاولات في حدود النظر النقدي، ولا يمكن الاستناد إليها كقانون في حسم مسألة تجنيس القص القصير جداً.

ونقول محاولات بحكم أدبيات ما بعد الحداثة، التي معها غاب التدشين للأجناس الجديدة، بينما تعزز عبور الأنواع المتفرعة والحديثة التفرع إلى الأجناس المعروفة المترسخة. والنوع مختلف عن الشكل، لأن النوع إذا حصل وتعرض إلى تطور وأحيانا إلى ثورة مفاجئة؛ فإنه يحتفظ باسمه، رغم حدوث تبدل جذري في بناء الأعمال التي تنتمي إليه، بعكس الشكل والنمط اللذين يفتتقدان الخصوصية، بمجرد حصول تطور أو تغير فيهما.

وأنّى للقصة القصيرة جدا المضي في سعيها نحو امتلاك القالب الإجناسي وبلوغ الاعتراف النقدي به، وهي لم ولن تتمكن من أن تثبت استقلالها في قالب إجناسي خاص بها يتعدى النوع، ويمنحها الرسوخ، وقد تفتت فكرة الأجناس الكبرى وتباعدت معطيات التفرد في الكتابة، بظهور نظريات الانفتاح والتداخل الإجناسي، التي أتاحت مساحات أكبر للكتابة والإبداع، بحثًا عن خصوصيات كتابية تتيح للأديب تجسيرًا في المسافات وتجريبا في الأشكال، بوصف التجريب هو أسُّ الإبداع، وفيه مكمن التوليد والابتكار، سواء أكان هذا التوليد بصناعة قوالب جديدة أم كان بالابتكار في إعادة صناعة القوالب نفسها وتجديدها.

ومع العبور يندمج الحد بالحدود في قالب واحد، فتتقلص عملية ولادة أجناس جديدة، وتتضاءل دعوى التبشير بها، تماما كما تضاءل القول بالنقاء في الأجناس الأدبية، التي كانت يوما ما تسمى كبرى وأساسية.

إن للقصة القصيرة موجبات ثيماتية وشكلية، بها تعد جنساً مستقلًا عابرًا، لا مولدًا وغير متفرع أيضا، وهو ما لا تستطيعه القصة القصيرة جداً، التي هي فرع ينتمي إلى أصل متولدة عنه هو القصة القصيرة. هذه القصة التي هي نفسها مرت بتطورات تاريخية، تم فيها تجريب تكنيكات نصية ومضامين فكرية، أثبتت بمرور الزمن فاعليتها الجمالية.

ولعل السبب وراء اللاتحديد والسائلية في القصة القصيرة هو قدم نشأتها التي يرجعها بعضهم إلى أبعد من التروبادور، وأبعد من المقامة والحكاية الشعبية لتصل إلى بواكير التاريخ، الذي وجد فيه الإنسان كيانه وشعر بأن له حدودا ينتمي إليها، ولغة يتواصل بها مع الآخرين.

ومؤدى القول إن القصة القصيرة كتابة سائلة الحدود والأشكال، والناظر في قالبها سيجد أنواعا اندرجت فيها، بعضها قديمة وبعضها حديثة وبمستطاع هذه القصة أن تصهرها في قالبها الذي يملك من المطاطية ما به تتجسر الحدود فيتنافذ النوع بالجنس.

 

  • كاتبة من العراق









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي