العقل العربي ورهابات الحوار المفتوح

2020-01-24

علي حسن الفواز*

هل يمكن للمثقفين العرب أن يفتحوا حوارات أو سجالات شجاعة مع بعضهم بعضا؟ وهل هناك إرادة حقيقية لإقامة وإدارة مثل هذه الحوارات، والقبول بها سياسيا؟ وهل يمكن البحث عن قضايا مشتركة وعميقة وقريبة من الهمِّ القومي لغرض وضعها على الطاولة؟ وهل ثمة من يُبادر لإقناع الحكومات العربية المتشاكلة، سياسيا وأمنيا، بضرورة وأهمية دعم هذا التوجّه الصعب والحالم؟

هذه الأسئلة وغيرها قد تبدو رومانسية، وربما غير واقعية، وفي ظل ظروف تاريخية وصراعية معقدة، لكنها في العمق تستحق الانتباه والمراجعة، ليس لأننا نريد ممارسة نوع من استعادة مجدنا التليد، بل لأنّ طبيعة الأزمات والصراعات قد وضعت «العقل العربي» أمام اختبارات صعبة، على مستوى الهوية، أو على مستوى المصير، أو مستوى اللغة والحوار المُلتبس مع الآخر.

ما يجري في واقعنا العربي باعث على الشجن، وعلى الإحساس بالهزيمة، التي قد تكون هزيمة رمزية بالمعنى التاريخي، لكنها تحمل معها حساسية من يبحث عن وجود لغوي أو هوياتي قابل للتنافس، ولإثبات الوجود، فنحن بعد هزيمة 1967 فقدنا كثيرا من «هويتنا» الصوتية، مثلما فقدنا كثيرا من التاريخ، وهذا الفقدان أورثنا رعبا داخليا، وهوسا بالبحث عن التعويض، بما فيه التعويض العسكري، حتى أننا وضعنا «حرب تشرين»، وكأنها الردّ المعنوي الكبير على الهزيمة.

الهزيمة تشبه الفقدان والخسران، وبقطع النظر عن علاقتنا مع الآخر القوي، أو الآخر الأيديولوجي، فإن هذه العلاقة تحمل معها حساسية ذلك الآخر، الذي ينظر لنا بوصفنا آخر يعاني من فوبيا الهزيمة الحضارية والعسكرية، وعلاقتنا معه لا تعدو أن تكون شبيهة بالعلاقة بين الحقل والناطور، وهي علاقة بائسة في جدواها وفي حساباتها..

التفسير الثقافي للعلاقة مع الآخر يكشف عن سيكولوجيا الرعب، وعن اختلال توازنها، ولا شيء في المجرى النقدي يدفع باتجاه تجريد الفكر العربي من قوته، ومن فاعليته، ومن أسئلته. وحدها السياسة العربية هي التي تُبرر جدوى العلاقة والحاجة العميقة لها، وتمنح الناطور توصيفات فائقة بين البطل والمخلّص والعرّاب، والحامي والمُسلّح، وغيرها، وهي في التقييم الوصفي تكشف عن ضعفنا، وعن عدم قدراتنا على إعادة إنتاج فكرة الناطور القومي.

 العقلانية والنقد

حينما كتب محمد عابد الجابري أطروحاته حول «نقد العقل العربي» فإنه وجد جورج طرابيشي له بالمرصاد، ليكتب «نقد نقد العقل العربي»، وليكتب آخرون أيضا ما يجعل فكرة النقد مشكوكا فيها، وبحاجة دائما إلى المراجعة، وإلى أهمية تخليصها من عوالق الأوهام والأقنعة والأدلجات التي تختبئ خلفها. كتابة النقد تقوم في جوهرها على فكر الشك، وعدم الثقة، وعلى وضع الذات القومية أمام رهابات تاريخية وفكرية، مردها الضعف، والخضوع، والاطمئنان إلى اللامرئي من الحلول الشمولية والاستعلائية، التي تعني الحماية والتسليم، مثلما تعني صناعة «الدول الجاهزة» و»المجتمعات المحمية» التي تعيش لحظات صيانتها الآمنة، وسط تهديدات أمنية ودينية وطائفية، وهو ما أسهم ضمنا برغبة الـ»بعض» بالدعوة إلى صناعة المجتمعات النقية، أو الناجية على طريقة التوصيف السلفي بـ»الفرقة الناجية».

 

مراجعة اشتغالات العقل العربي لا تعني مراجعة السياسة بمعناها الخالص، ولا حتى التدخل في اللاعقلانية السياسية العربية، بقدر ما تعني العمل على إثارة أسئلة وجودية حول هويتنا، وحول مستقبلنا، وحول فكرة «تلاشينا»، كما أشار إلى ذلك الشاعر أدونيس

استدعاء العقلانية قد يكون وعيا بالمشكلة، ودعوة لمواجهتها، ومنظورا لرؤية الأشياء الحقيقية من حولنا، فالسياسية والفوبيا الأمنية كثيرا من تصنع أوهاما، وأشباحا، وديكتاتوريات، وتخيلات لا مرجعيات سردية لها، لاسيما أن تاريخنا الذي نحاول اليوم سردنته يحتاج إلى العقلانية من جهة، والنقد من جهة أخرى، ليس بالضرورة على طريقة الجابري، لكي يكون عقلا عرفانيا أو بيانيا أو برهانيا، وأن تتوزع الولاءات، وفق حاجة هذا العقل أو ذاك، فالمغرباني سيكون برهانيا، وربما بيانيا بعض الشيء، لكن المشرقي سيظل عرفانيا، أي أنه محكوم بعقد الغنوصيات والروحانيات، واستيهامات التصوف.

الاعتقاد بأنّ هذه التوصيفات أضحت مثيرة للجدل، يقابله التصديق بأنّ السياسي هو الوحيد الذي يملك الوجه البرهاني للحقيقة، وأنّ ما يحمله الثقافي من عرفانية لا تساعده على تجاوز عقدة الحداثة بمعناها الإجرائي، حيث تظل تلك الحداثة تهويمية واستعارية، ولا ظلّ لها سوى اللغة، وسوى ما يحمله لها مبشرو الحداثة من نزق «أدونيسي» مسكون بوهم التجاوز في اللغة وليس في الواقع، لكن التغافل عن حقيقة الأمر هو ما يجعلنا أكثر استجلابا لعلم اللغة على حساب علوم أخرى، يمكنها أن تشفع لنا في معرفة مسؤوليات الحداثة، فنحن لم نوظّف علم الاجتماع في معرفة الشخصية والهوية والجسد والعقيدة، وحتى في اللغة نفسها، فضلا عن تعطيلنا التعليمي، وربما السياسي والديني لعلمٍ مهم هو الأنثروبولوجيا، ووصفناه دائما بأنه علم المستعمرين، وأن وظائفه وكشوفاته لا تمسّ سوى الغامض والمقموع من العادات والهويات والأزياء والعادات والقيم والأساطير، حتى بات وكأنه جزء من اشتغالات الفلكلور، بعيدا عن أن يكون علما مهما، له شأنه في الحفر والكشف، والمعرفة، وفي تقويض المركزيات القديمة التي حولتنا إلى أمةٍ صالحة للاستشراق فقط.

النقد وجلد الذات

قد يبدو الأمر وكأنه تعبير عن العجز، أو نزوع للإشباع الأيروسي، الذي يبعث على أن يكون المثقف العربي – في سياقه – مازوشيا يجلد ذاته القومية دائما، وأن يظل رهين السؤال الذي طرحه شكيب أرسلان «لماذا تأخرنا؟ ولماذا تقدّم الغرب؟». هذا التوصيف لا يخفف من النتائج التي نعيش رعبها، ونواجه مشكلاتها وتحدياتها، لاسيما بعد «أحداث الربيع العربي» وبعد تغوّل «الإسلام السياسي» بنسخه المتعددة عبر «القاعدة» و»داعش» والحركات السلفية والجماعات الميلشياوية، وهي بالمناسبة نتائج لأسباب ترتبط بفشل صياغة مفهوم الدولة – الأمة، وتحولها طوال عقود إلى دولة قمعية طاغية وعاجزة عن أن تجد حلولا إنسانية وأخلاقية لشعوبها، ولما يخصّ تنميتهم وحرياتهم وحقوقهم وحداثتهم أيضا.

هذه العطالة قد تدفع لأن يكون جلد الذات مبررا، وأنّ نقدها هو سبيل للخلاص من عقدة الفشل والتسليم والخوف من الآخر العربي ذاته، مقابل الاطمئنان المفتوح للآخر الأجنبي، الذي لا شأن له بالسلطة، ولا بالتغيير والتنوع والتعدد والديمقراطية، وأنّ كلّ همّه ينحصر في «المال» الذي يجنيه مقابل العمل، وهكذا تتحول الدول إلى مؤسسات، أو مصانع وسوبر ماركتات، والمجتمعات العربية إلى أماكن للاستهلاك والجباية.

مراجعة اشتغالات العقل العربي لا تعني مراجعة السياسة بمعناها الخالص، ولا حتى التدخل في اللاعقلانية السياسية العربية، بقدر ما تعني العمل على إثارة أسئلة وجودية حول هويتنا، وحول مستقبلنا، وحول فكرة «تلاشينا»، كما أشار إلى ذلك الشاعر أدونيس، لأننا لم نعد نستعمل قوميتنا، ولا عروبتنا، وحتى لغتنا خضعت إلى عمليات تجميل واستلاب، بحكم طبيعة السيطرات اللغوية التي جاءت مع العمالات الأخرى، ومع الاستشراقات الأخرى، وارتكست فينا كقيم فائقة وضدية، إزاء تاريخنا وإزاء فهمنا للتحولات الكبرى التي عصفت وتعصف بالعالم.

إنّ التحرّك للتصدي لآثار ذلك ثقافيا وسياسيا، سيكون صعبا، لكنه ضروري، لاسيما مع الثقة بطبيعة الحوارات التي يمكن فتحها، والتخطيط لها، واختيار الكفاءات العلمية والمعرفية لإدارتها، وللمشاركة فيها، وأحسب أنّ ذلك لن يكون تهيئة لطرد الآخر، وليس لأننا سنواجه العالم بجيوش قومية، ولا بحروب لسانية، ولا حتى سنمنع تداول كل ما يتعلق بالعولمة، وبما بعد الحداثة، بقدر ما أننا سنقوم، وهذا حقنا، بقراءة عقلانية ونقدية لملفاتنا القومية، عبر منطق الحاجة إليها، وعبر ضرورة إعادة النظر بمفاهيم وأفكار متيبسة في داخل فضائنا القومي، والحاجة إلى إعادة توصيفها، مثل مفاهيم الأمة والهوية والذات والمقدّس والجماعة، وبما يجعلها أكثر انفتاحا على مسارات الجديد في عالم الأفكار، والجديد في اشتغالات المعرفة، والتعرّف على الاستراتيجات التي تحكم العالم، بدون أنْ تخلّ بقيمه وشروطه، لاسيما وأن العقل الغربي الأوروبي يراجع سنويا، وعبر العديد من مراكز البحوث في الجامعات الكبرى طبيعة المتغيرات في العقل الأوروبي، وأهمية المحافظة على «الأوربة» بوصفها جوهرا صبيانيا..

 

  • كاتب عراقي






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي