يوسف إدريس.. بين الإبداع والسياسة والتحليل النفسي

2020-01-15

 كمال القاضي*

في ما يزيد على أربعين مؤلفاً، وضع الكاتب يوسف إدريس خلاصة تجاربه الإنسانية والاجتماعية والسياسية، فجعل يُمعن في تحليل الشخصيات والأحداث من منظورات متعددة، متأثراً بالمناخ الذي عاشه ونشأ فيه، طبيبا نفسيا ومسؤولا في أحد قطاعات الصحة في أربعينيات وخمسينيات وستينيات القرن الماضي، وأيضاً مراقبا للحياة الثقافية بكل موجاتها، وقد وضح هذا التأثر في ما كتبه من روايات وقصص، اختلطت فيها الجوانب السياسية بالجوانب الأخرى لحياة المواطن المصري، الذي امتزجت همومه، فشكلت تضاريس إبداعية تعامل معها الأديب كمكون رئيسي لأدبه وفنه، وما صاغته يده من مختلف التنويعات المترجمة لفكره وثقافته ومرجعياته الكثيرة.

تراوحت إسهامات إدريس بين الرواية والقصة القصيرة والمسرح، ولكن ظل الحضور الأقوى له متجلياً في المجال القصصي، كونه فناً دقيقاً اعتمد فيه على لغة الدلالة والتكثيف، ورمزية الإشارات بمقاصدها القريبة والبعيدة، حيث طوع الفكرة والصورة الذهنية المتخيلة، لتكون وسيطه الفلسفي لدى القارئ النوعي، الذي تدرب على استقبال المفاهيم والمعاني واكتسب خبرة الاستنتاج، فبات مؤهلاً لاستيعاب ما يُكتب وما يُطرح بدون عناء.

لقد أحدث يوسف إدريس ثورة أدبية، منذ أن كتب أولى مجموعاته القصصية «أرخص ليال» قبل أكثر من نصف قرن، إذ تحولت بفضله قبلة القارئ العربي شطر القصة، بعد أن ظلت الرواية لعقود طويلة هي المهيمنة على المزاج العام، والذائقة الجمعية لعموم القراء من عشاق الأدب والإبداع، وبتعدد الكتابات القصصية التي جاءت بعد المجموعة الأولى صار الطبيب الأديب معتمداً باعتباره أحد مبدعي القصة القصيرة وأميزهم على الإطلاق في هذا اللون شديد الخصوصية، وهو ما وجه عناية السينمائيين المصريين إلى أهمية ما يكتبه فعمدوا إلى استثمار نجاحه بنقل بعض إنتاجه الأدبي إلى الشاشة الكبيرة، ليعرف طريقة إلى النور بوصفه إبداعاً فنياً يصلح للفرجة والمتعة والتذوق بمقاييس القاعدة الشعبية العريضة، ومن هنا جاء التناول متمثلاً في نوعيات استثنائية كان من بينها قصة، «بيت من لحم، وطبلية من السماء، وحلاوة روح، وكان لا بد أن تضيئي النور يا لي لي، وحادثة شرف، ورهوان»، وغيرها من العناوين والقصص والأفلام القصيرة، التي فتحت النوافذ الأدبية على السينما بالتوازي مع المسرح، الذي قدم من خلاله مسرحيات، «الفرافير والمخططين، وملك القطن، واللحظة الحرجة، والمهزلة الأرضية»، وامتد نشاطه ليشمل مسرحيات أخرى اشتبكت مع الواقع ونقلت نبض الحياة السياسية من وجهة نظر معارضة.

   

في فيلم «النداهة» قدم الصورة الواقعية للصدمة الحضارية، محدداً أوجه التصادم بين المجتمع الريفي البدائي آنذاك، وطبيعة الحياة في العاصمة، وتأثيراتها على البطلة البسيطة القادمة من أعماق الريف

وكان التسابق على قصص يوسف إدريس مكسبا كبيرا وفتحاً مبيناً للسينما المصرية، التي وسعت دائرتها الإبداعية لتضاعف من تجاربها، فيصير الناتج النهائي تركة من التراث السينمائي المُعتبر، وإضافة مهمة لمجموع الأفلام الروائية الطويلة، كـ»الحرام، وقاع المدينة، والعيب، والنداهة، ولا وقت للحب، وعلى ورق سيلوفان، والعسكري شبراوي»، وقد تضمن كل فيلم من هذه الأفلام رؤية خاصة تعكس رأي الكاتب في جُل القضايا المعاصرة إبان حياته وفترات تألقه، فكتب عن المشاعر الرومانسية ومراحلها وفترات زهوها واضطراباتها النفسية والعضوية بتشخيص الطبيب النابه المجرب.

وأيضاً عطف بحس المناضل الثوري والوطني على أزمات الوطن في فترات الاحتلال والمقاومة، فكان فيلم «لا وقت للحب» نموذجاً للحالة الثورية ومعطيات وبراهين الكفاح في مسيرة الشعب المصري، الذي اتبع كل أساليب المناهضة ضد المحتل، وجسد صورة البطل الشعبي ومشاركة المرأة العاملة، متمثلين في دور رشدي أباظة ودور فاتن حمامة كشخصيتين رئيسيتين في الفيلم الأهم على مستوى المضمون والأداء. وكذلك كانت صرخته المدوية في فيلم «الحرام» تلك التي أطلقتها أيضاً فاتن حمامة ضد الظلم والاستبداد واستلاب الشرف والكرامة، والخضوع المهين لذل الإقطاع والرأسمالية، وجبروت أصحاب المعالي من الباشوات والبكوات، ولم يختلف رأيه ولم تتغير رؤيته في فيلم «قاع المدينة» فظل على مبدئه منحازاً للفقراء ومجابهاً لكل أشكال الفساد بغير ادعاء أو تصنع.

وفي فيلم «النداهة» قدم الصورة الواقعية للصدمة الحضارية، محدداً أوجه التصادم بين المجتمع الريفي البدائي آنذاك، وطبيعة الحياة في العاصمة، وتأثيراتها على البطلة البسيطة القادمة من أعماق الريف، محملة بالبراءة، وغير مُدركة لتحولات الزمن وطفرات التقدم، وفي ضوء الحدوتة الدرامية، اعتنى يوسف إدريس بطرح إمارات الفجوة التقدمية والفوارق الحضارية بين الطبقات داخل المجتمع الواحد.

ولم يفته أن يسجل موقفه من وضعية المرأة المصرية، كعنصر منقوص الحقوق في قصة «العسكري شبراوي» التي تحولت إلى فيلم كوميدي أفقدها الكثير من المعاني المقصودة على عكس المستهدف من الإشارات والمغازي، ورغم التشويه الذي أصاب الفكرة، ظلت هناك ملامح تُنبئ بما قصده الكاتب، وما وجهه من نقد حاد للمجتمع، الذي لم يُعر المرأة الاهتمام الكافي في وقت مُبكر، قبل أن تُطلق الصيحات والنداءات المطالبة بحقوقها، باعتبارها النصف الحيوي للمجتمع والعنصر المتميز فيه، وهو ما يؤكد أن الأديب والمفكر، الذي طرحنا جزءًا من إبداعه كان صاحب السبق في المطالبة باحترام حق المرأة، والداعم لنُصرتها، وهو الذي حملت كل أعمالة أبعاداً إنسانية واجتماعية وسيكولوجية، فتقت الأذهان عن المخبوء من القضايا والمسكوت عنه في ملفات الحقوق والمطالب.

 

  • كاتب من مصر

 

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي