"وسواس" دارين زكريا.. زخرفةٌ أقل وانحياز للواقع

2020-01-14

محمد المطرود*

لا تتخلص الشاعرة دارين زكريا من الإرث الذي يجمعها بالنسوية العربية تحديداً، ذلك الإرث الآخذ بالثنائيات القائمة على تمجيد المرأة وإعلاء شأنها في موازاة الرجل، أو تلك النزعة الأنثوية التي تحتفي بوجودها ككيان قائم بذاته، وله المشروعية والحق في الحضور ومناكدة الأشياء المحيطة بها، ومن ضمنها العلاقة مع الإنسان الرجل، ومع الإنسان الكائن المنتج أدبياً أو فنياً، إذا عرفنا أنّ المنتجة لنصها الشعري والحياتي تتحسس ذاتها ووجودها بوصفها كائنا فاعلا، خلّاقا فنيا، قبلَ أن تكونَ شخصاً اجتماعياً متداولاً في الحيز العادي، مع الأخذ بإمكان صنع علاقات مع التفاصيل والهوامش، اللتين بدورهما تعززان فكرة وجود المحور، أو الثيمة الرئيسية لمجموع انشغالها في تأسيس لغة تُقرأ ببعض الخصوصية، التي تحسب لها، وإن لم تتمايز موضوعاتياً عن كامل المشهد الشعري النسويِ، تقول في ديوانها «حيرة مطر» وهو العمل السابق لـ»وسواس» وتتركز فيه فكرةُ الشاعرة السوبر، أو الشاعرة التي تنتمي إلى شاعرة قرينة تاريخية، قرأنا مثيلهُ في شعر ولادة بنت المستكفي في عهد مضى، وفي عصر قريب في تجربة الشاعرات العراقيات ومنهنّ لميعة عباس عمارة: «ولها في دار العشقِ/ ألفٌ وخمسون/ كلّهم عند عتباتِ/ محكمةِ القلم/ يتناحرون/ هي بلقيس/ وسربٌ من الجنّ/ من طرفِ رمشها/ يكتحلون/ بلقيس/ لا نبي لها إلا الحرفُ/ ولها كسليمان/ فوق الألف/ تسعٌ وأربعون».

 

يرىَ متابع دارين زكريا في وسائل التواصل الاجتماعي حفاوتها باللغة، فهي تكتب بحساسية وافرة، وتأتي جملتها مسبكة ومشغولة إلى جانب حضور موسيقى تقرّبها من قصيدةِ التفعيلة

 

 حدّيات أقل وتفاصيل أكثر

في «وسواس» الصادر عن دار الدراويش نهاية عام 2019 تتنازل زكريا عن الحدّية في الثنائيات، التي كانت تُلحظُ في «حيرة مطر» لصالح تفاصيلَ وأسماء وعناوين، كما لو هي تريد القول إن السنتين الفاصلتين بين الكتابين كافيتان للهدوء والترويّ في تشييد علاقة جديدة مع اللغة والمواضيع، ففي العنوان المتأسس على مفردة واحدة، لكنها مفردة حاملة لمعناها وتكاد لا تحتاج لمتضايف ليكتمل وقعها، مُجنّسة عملها بـ»هايكو ونبضة» ويبدو من إضافة نبضة قلق الشاعرة في استيفاء مفهوم قصيدة الومضة غربياً، والكتابة في حيز تبيحهُ العربية من خلالِ الهامش الفضفاض للهايكو، الذي تساوق مع حركة الشارع وشعارات الثورات الجديدة، ولهذا نجد الفلاش أو البرقية أو التعريف المقتضب، تغيبُ الموسيقى في أحايين كثيرة لتحضرَ القفلة أو محاولة الإدهاش بالتكثيف والاقتصاد اللغوي في الرسالة، وتتبع خطها المستقيم نحو المرسل إليه: «حقيقة.. الخلُّ الوفيُّ لكَ/ هو أنت»، في مدى مئة وسبع من الصفحات، وفي كلّ صفحةٍ ومضتان، تأتي كلُّ ومضة تحتَ عنوان، ما يجعلها ناقصةً خلا عنوانها، فيما لو لم يوضعْ، ولعلّ هذه التقنية كعتبة جاءت موفقةً ومضيفةً حركة أخرى للمشهد، الذي ترسمه دارين زكريا بأقلّ ما يمكن من الكلمات، معوّلة على الشفوي أكثر من الرؤيوي، والصورة الواضحة أكثر من الغامضة، التي تجعل المتلقي يستبسلُ في فكّ رموزها، وقد نجدُ هنا في سياسة الشاعرة في نصوصها القصيرة جداً والسلسة جداً، ما لا يذهب إلى المقولةِ» كلّما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة» فقد تضيق العبارة ويَتسعُ الهامش لصالحِ التفاصيل التي تهمُّ المتلقي بقدر أهميتها لدى منتجها، تقول تحت عنونة «ناي»: «صوتهُ بُحّةُ الناي/ كلّما همَّ بالكلام/ غنّى القصبُ موليّا» وتقول في «لا وطن: «من حُسنِ حظّها/ تعودُ الطيورُ المهاجرةُ إلى موطنها في الصيف/ فصلُ العودةِ لا يتراءى لنا نحنُ السوريين»، وتقول في اكتمال: «سأعيدكَ إلى رحمي/ لتربى أنتَ/ وأكتملُ أنا».

 مركزية الذات/ انفتاحٌ على الموضوعات

 «أتوقُ إليكَ/ فيقتبسُ جلدي/ لون بشرتك»، تتمايزُ مواضيعُ «وسواس»، ففي الوقت الذي يُقرأ فيه العنوان كحالةٍ خاصة أقربُ إلى المرضية أو الذاتية المفرطة، نجدُ ما هو مشغول بهمّ جمعي، تحضر فيه الدياسبورا السورية، كذلكَ أطفال اليمن، كذلك العلاقة مع الوجود في البلد البديل ألمانيا، إلى مخاطبة الذوات العاشقة، سواء للأسرة ابتداء من الأطفال وانتهاء بأسرة الأهل/ العائلة الأكبر، إلى الحميمي المقترب من البوحِ أو العادي في العلاقة اليومية مع أشيائنا، كأن تكون المرآة أو القطة أو كلبة الجارة الألمانية في غيابِ المؤنسين: «وهبتني الحياةُ طفلين/ كلّما سمعتُ مواءَ قطي (ميشو)/ ظننتُ أنّي ولدتُ ثلاثة».

يرىَ متابع دارين زكريا في وسائل التواصل الاجتماعي حفاوتها باللغة، فهي تكتب بحساسية وافرة، وتأتي جملتها مسبكة ومشغولة إلى جانب حضور موسيقى تقرّبها من قصيدةِ التفعيلة مع اختيارها لقصيدة النثر كمساحة اشتغال، في حين تقدم نفسها في «وسواس» هكذا بزخرفةٍ أقل مقتربة من فعلِ الحياةِ الواقعي أكثر فأكثر!

 

  • شاعر وناقد سوري






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي