"لا وجه في المرآة".. قوة التحديق في اللانهائي

2020-01-05

ليندا نصار

يستطيع قارئ العمل الشعري "لا وجه في المرآة" (المتوسط 2019) للشاعر عبده وازن أن يتمثل مفهوما جديدا في فلسفة الكتابة الشعرية وبلاغتها؛ إذ بقدر ما يفاجئنا باستحالة المحو منذ القصيدة الأولى "سرقة" كشكل من أشكال الأثر الذي يجعل من مسيّر النصوصية الشعرية العربية وهي وجها لوجه مع تحولاتها المتدفقة، بقدر ما يختتم هذا الأفق الشعري بقصيدة تحتفي بشاعر رهيب لماح في قصيدة ملحمية وسمها بـ"قدّاس جنائزيّ لأنسي الحاج" كاستراتيجية في الكتابة التي تبنى على البناء والهدم في الوقت نفسه، إذ لا يكتب الشاعر إلا من خلال وعي مفارق لكل تلك المقدمات التي يمكن تلمّسها في القصيدة الأولى.

إن هذا البحث عن التفرد يمكن أن يجعلنا ندخل هذا العمل ضمن الأفق الحداثي للتجربة الشعرية المعاصرة.

يقول الشاعر:

"لديك المزيد من الأماسي

لتكتبَ على الهواء

كلماتٍ مضمخة بعطر أزليّ

قصائدَ لا يقرؤها سوى الله

يدمع لها أو يفرح

لترسمَ خواتم من ذهب

لتفتحَ صفحة المستحيل

وتجترحَ معجزةً من دمٍ وخمر.."

إن قوة التحديق في المرآة التي تتفنن في إخفاء الوجه الحقيقي للحياة التي لا نعترف بها سوى أمام انعكاساتها التي تزيف التشوهات الداخلية للإنسان وكأننا أمام مسخ كافكاوي، تعيد سؤال الوجود الإنساني. لذلك فالشاعر يفجّر العادي في ثنائيات التجلي والإخفاء والضعف والقوة والفرح والحزن.. فالمستحيل يصير ممكنا في الكتابة التي تخلصنا من هذه الأماسي التي تصير بهية في حضرة الشعر المعجزة.. لهذا يدعو الشاعر إلى ضرورة سرقته حين يتحقق الإعجاب، لأننا نكتب لعشاق يتفننون في قراءة قصائدنا التي تتماهى مع جسدية مضمرة تقول نقصنا وهشاشتنا، وفي الوقت نفسه تعري عن تناصات تكاد تكون مفضوحة في شعرنا المعاصر وكأن الشاعر يسخر من مشهدية هذا الشعر الذي يتعرض إلى أشكال لا نهائية من القرصنة التي لا يمكن إثباتها أمام القانون الأدبي..

يقول عبده وازن: "إن أعجبتكَ قصيدة، وتمنّيتَ لو كنتَ صاحبها، اسرقْها بلا تردّد، إنها كُتبت لتكون لكَ أيضاً. صاحبها كتبها وكفى. احذفْ منها قليلاً، أضفْ إليها قليلاً، صورةً من هنا، مجازاً وموسيقى خافتة، لا تدع فيها أثراً لصاحبها. هذه ليست خيانة.

 القصائد كلها تبحث عمّن يوقِظُها من غفلتها، ولكنْ.. حذار أن يعرفها صاحبها، إن هو قرأها يوماً. كنْ سارقاً حذقاً، لئلا تفضح نفسَك. ما لم تكن سارقا ماهراً، فلن تكون شاعراً بتاتاً. يوماً ما سيأتي شاعر آخر، ويسرق القصيدة نفسها. أنتَ إذا قرأتَ القصيدة، لن تعلم أنها قصيدتكَ التي سرقتَها يوماً بحذاقة".

إن فلسفة تمجيد الكتابة والمحو والحواريات التي تحتفي بالشعر كضرورة حياتية عوض أن تتحول إلى مجرد إلصاق وترصيف للنصوص، تصبح ذات قدرة على أن تجعل الأثر قويا، ويستمدّ ذلك من طبيعة علاقة الشاعر نفسه بالحياة وتحويلها إلى مجموعات من الصور التي تعري هشاشة وجودنا.

لهذا استطاع الشاعر أن يراكم صوراً وأحداثاً استقاها من اللحظة الراهنة جامعاً بين العالمين المرئي المتمثل في المشاهد التي صار الإنسان يصادفها يوميّاً وبين العالم اللامرئي الذي يتمثّل بالطّيف، فللوجه الواحد انعكاسات منها تلك التي تتبدد في حلول ليل يخفي صور المرآة.

ومنها تلك التي تأخذنا إلى أبعد من هذا الأمر بحيث يجد القارئ نفسه محدّقاً في مرآة الأنا في مواجهة نفسه... وهنا السؤال: إلى أيّ مدى يمكن اعتبار هذه الوجوه تتخفّى لتضيع ملامحها ويهيمن عليها عالم من الغموض الذي يمحو الانطباعات فتغيب المواقف الحقيقيّة ويصبح المجهول سيّد الموقف؟ وهل يتجلّى في ذلك عدم القدرة على مواجهة الذات ومصارحتها في مرآة فقدت ما كانت تعكسه من حقائق بعد أن غيّب حضورها ذلك الليل؟

"شبح

لا وجه لي أراه في المرآة،

لا عينين لي أخبّئ فيهما سماء،

الشعاع الذي عبر محا صورتي،

وصرت كالطيف لا يبصره أحد،

أعبر أبوابا مغلقة،

الجدران لا أترك فيها أثراً،

والسياج لا يجرح يديّ.

إذا لفحني هواء، أترنّح خفةً، أحلّق قليلاً، ثم أسقط كورقة خريف.

إنني الشبح، الذي فقد عينيه، قبل أن يخرج من الظلام".

تقاطع بين الحلم والواقع

تتقاطع قصائد وازن في تعبيرها بين الأنا الحالمة والأنا الماثلة في واقع لا يليق بها، فيجد نفسه أمام خيارات واحتمالات إعادة بناء هذا الفضاء وتشكيل عالم وفق ما تمليه عليه الظروف كما سبق أن ذكرنا. وكأنّنا هنا أمام واقع مكبّل يقيّد الأحلام في ظلّ الحروب التي يعيشها الإنسان سواء كانت مع ذاته أم مع ما يحيط به.

هذا الاختلاف في مقاربة المشاهد هو الذي يفرض الرموز التي تنطلق من رؤى جمالية مفارقة، وهي تظهر معرفة واكتشافاً للذات الإنسانيّة وعلاقتها بالكون.

استطاع وازن أن يعبّر عن الموت الرّمزيّ للإنسان الذي يتأتّى من آلام النفس البشريّة المحصورة في قيود المعاناة، ووسط هذه الإرباكات المحيطة بنا يبقى الشّعر المتنفّس الوحيد الصّادق الذي يجعل الظلام ينجلي.

لا شكّ في أن في أعماق الشاعر ميلاً إلى عالم من الصفاء الشعري، وهذا لا يتأتّى إّلا من خلال العزلة الشعوريّة التي يعيشها بعيداً عن عالم الصخب وسط جو من الهدوء مليء بالأحلام الحياتيّة والتي لا بدّ من أن تتحقّق ذات يوم.

يتابع وازن في قصيدة أخرى:

"أكتب في العتمة، أبصر نفسي أكتب في العتمة.

 أطفئ الضّوء.../ أكتب فقط/ ولا أعلم ماذا ولا أين.../ لكنني كلما كتبت، ازداد الظلام من حولي، حتى إنني أبصرت الظلام يشرق مثلما يشرق الضوء.../ رحت أشرب الظلام بجرعات، ولمّا نظرت إليّ، لم أجدني".

هنا يلعب الشاعر لعبة تناقض الضوء والظلمة ويصرّ على طقوس وممارسة الكتابة في الظّلّ حيث تختفي الوجوه وتصبح العزلة الكتابيّة سيّدة الموقف، تماماً كما في قصيدة "حبر أبيض".

 فكما يتماهى الشاعر مع قصيدته في الظلام بعد انحلال الضوء، يحدث هذا الأمر في عالم من البياض....

الحبر أبيض والورقة بيضاء والكاتب صار طيفاً وكلّ شيء من حوله صار سراباً، فمن يفكّك رموز الكتابة؟







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي