درجة حرارة عالية

2020-01-04

حسن عبد القادر*

أخرجُ إلى العمل حالما تخرج الشمس إلى العلن، أسقي العطشى بكؤوسٍ بلاستيكيّة كُتِبَ عليها «البلاستيك يضرّ بالبيئة»، أحتجّ قليلًا، لكأنّ البارود المتساقط من الطائرات يصلح لأن يكونَ سمادًا لحقول الشعير البعليّة، فيما البراميل محراثًا يشقّ الأرض لكي نزرعها أجسادًا لا تأبه بالماء أو البلاستيك.

 يا إلهي إنّها الحادية عشرة، ست ساعات تفصلني عن العودة إلى البيت، أتفقّد واتساب، لم يرسل لي مشرفي في العمل ردًّا على رسالتي الصباحيّة، لا بأس ليست المرة الأولى التي يفعل بها ذلك، أضحك ضحكةً صفراء وأيمّم شطرَ السماء، لعلّ الله يرزقني عملًا أفضل من هذا كي أضحكَ بألوانٍ أخرى.

أغلق الإنترنت كردّة فعل لا قيمة لها حتّى أمامَ نفسي، وأعود للسقاية دافعًا الوقت البطيء بكفيّ لعلّه يهوي من شاهق التعب، فيقتربُ البيتُ ساعةً أو اثنتين. تمرّ ساعة واحدة، أفتح هاتفي وألمسُ أيقونة الشبكة فأجد اسم زوجتي عالقًا أعلى الشاشة، تخيفني الرسائل المصحوبة باسمها، إلى درجة أنّي أتمنى ألا أفتحها، فأفتحها مرغمًا وأجد رسالة تقول: «علي حرارته 39.5، أسرِعْ بالعودة إلى المنزل»، ترتبكُ أصابعي المبتلّة، فلا أعرفُ كيف أكتب «أنا قادم»، لكنّي أكتبها بدونَ أن أتأكّد إن كانت وصلت أم لا، أوقف عملي، أركب الدرّاجة الناريّة وأنطلق، صعبة هي الحياة في مناطق لا تغطّيها شبكة الهاتف المحمول، والأصعب من ذلك هي الدقائق الخمس عشرة التي تفصلني عن البيت، في الحقيقة لا تُحسب المسافة هكذا في ظلّ هذا الخراب، بل هي كالتالي: حرارة طفلي 39.5 نضربها بعزمِ دراجتي الناريّة التي أوشك وقودها على النفاد، ثمّ نقسّم الباقي على جيبي الذي لا يحوي سوى ألفي ليرة سورية، وعلبة سجائر رخيصة، فيكون الناتجُ: «مرحبًا أنتَ تعيشُ في سوريّا».

 قد تخونُ دراجتي الناريّة طريقي، لكن من لم يخن هذا الطريق؟ العالم بعربه وعجمه تركوه مفتوحًا أمام القادمين، وأغلقوه في وجوهنا كي لا نخرج، وكي نضحك، نعم عليكَ أن تضحك بكلّ ما أوتيت من قهر، فقط بعد أن تقطع الدقيقة الأولى من المسافة، ستضحك، لا بدّ أن تضحك.

أنظر إلى الشمال ثمّ إلى الغرب فلا أرى سوى الجدار التركي الذي بنوه بيننا كي يمنعونا من دخول بلادهم «الآمنة»، لا لشيء، فقط لأنّنا سوريون، والآن لديهم ما يكفي من السوريين الصالحين للعمل والإنتاج، بما يتناسب مع اقتصاد بلادهم، والصالحين لتهديد الأمن الأوروبيّ بما يتناسب مع سياسات زعيمهم، فيما نحنُ صرنا من حصّة سلال الغذاء ونشرات الأخبار، ولم يعد من حقّنا أن نحبّ الحياة والعمل مثلهم. أنظر نحو الشرق فلا أجد كفيلًا يضمنُني، أغضّ الطرف عن الجنوب الذي لا حول له ولا قوة، الجنوب الذي باتَ مهجورًا سوى من المدافع والطائرات.

ترى هل سيحوّل الأطباء طفلي إلى تركيا بسبب حرارته، ويمنعوني وأمّه من مرافقته، كيف سأتركهُ يذهب وحيداً وما زال يتدرّب على الخطو؟ ألن أكون حصانه الذي اعتادَ أن يركب على ظهره وينثر ضحكاته ملء الكون؟ لا أدري، كلّ ما أدريه أنّ الطريق باتت وكأنّها ألف ميل، فيما دراجتي سلحفاة عجوز تثبّط الريحُ من عزمها. تستعرُ النار في داخلي، وترتفع درجة حرارتي، فأتساءل في ما لو كنت أملك بساطَ علاء الدين، ألن أحلّق خارج هذي البلاد الملعونة؟ بلى كأقلّ تقدير إلى أرضٍ لا موتَ فيها كهذا الموت الذي يحاصرنا من كلّ الجهات، إلى أرضٍ لا ترتفع فيها درجة الحرارة أكثر من 37 درجة، لكن هيهات، هيهات، السماء تعجّ بأسراب الطائرات التي كلما مرت واحدة فوقنا أمسك قلبي وأقول: يا ربّ عائلتي، فالطائرة لا تميّز بين كبير أو صغير، والطيّار ليسَ لديه ابنًا كعلي، يُشعِره بالنصر أمام كلّ هذه الخسائر، يا ربّ أهلي.

أجتاز خيام النازحين الذين يعلّقون حكايا ألف خيبة وخيبة على الحبال، أصل البيت بعد تعبٍ يفوق ساعات العمل كلّها، أدخل خائفًا وكلّي نداء واحد: «علوشي»، فأسمع هدله ومناغاته، وما إن أفتح باب الغرفة حتى يحبو نحوي مسرعًا، وكأنّه يشكو لي ألمه، أضمّه إلى صدري بكلّ قوة القلب، وألمس صدره، فأجد حرارته أقرب إلى الطبيعية. الحمد لله ذهبت الحرارة بعد أن أعطيته دواءً خافضًا لها. تقول أمّه.

أركبُ درّاجتي، وأعود أدراجي إلى العمل، يوقفني رجل ستيني، يصعدُ خلفي ويبدأ يشكو غلاء المعيشة، وكيف أنه لا يملك حتى ثمن الخبز، يا لهذه البلاد التي يصعب الخبز فيها، أتصبّب عرقًا فيما ينهال عليّ الرجل بشكواه، فتزداد حرارة جسمي، أنظر إلى جيبي الذي كان جزءًا أساسيًا في المعادلة، ثمّ أنظر إلى التاريخ، بقي أكثر من أسبوع كي أقبضَ راتبي، والألفا ليرة لا تكفيني خبزًا ووقودًا للدرّاجة. أعتذر منك يا عمّي فليس لديّ إلّا الدعاء. أقول للرجل وأنا ما أزال أنظر إلى التاريخ الذي سيكتب يومًا غيرَ كلّ هذا.

 

  • كاتب من سوريا

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي