
عبدالحفيظ بن جلولي*
يساهم السرد في بعث سوريا جديدة من رحم فضاء الأزمة، بعيدا عن سوريا الطائفة، البعث والقومية، إنها سوريا الوعي، تلك التي أخرج صورتها شعبان عبود من بلدته بنش المقابلة للفوعة، في اختلافهما المذهبي، الذي أذاب سطوته الحب، ويستمر وجه سوريا يطل من جماليات السرد، ومن عمق مدنها التاريخية العريقة، إذ عمد الروائي زياد كمال حمامي إلى استلهام رؤية تتفجر منها سوريا كقطعة مقبلة من التاريخ، من عبق الأمكنة في حلب في روايته «قيامة البتول»، متكئا على التعدد الجنسياوي والثقافي والديني وتفاعلاته التي لا تخفي صراعاتها، لكن أيضا لم تبادر إلى تدمير ذاتها، لأن المشترك أكبر من أن يرسم التاريخ ببلادة على جدران لا تتكلم.
معزوفة حب صخرية:
تخترق «حلب» جوانية المعنى في الرواية لتتكلم عن مأساة الإنسان في المدينة العربية حين تغيب عنه برهة «حرية» تمكنه من استنشاق حقيقة وطن يلازمه، ولابد أن يكون كذلك، من شهقة الميلاد وحتى شخير المفارقة للحياة، هي تلك جمالية ترسيم حلب، ومن ثمة سوريا في «قيامة البتول»، إذ يعمد الروائي إلى تفعيل رومانسية/سيريالية المشهد في جملتي البداية والنهاية، لكن قبل ذلك في عتبة التصدير للرواية، يورد مقطعا من رسالة الإله بعل 5000 عام ق م: «سوريا بلدكم، أينما كنتم، وهذا حقكم، فحطم سيفك، وتناول معولك، واتبعني لنزرع السلام والمحبة: أنت مركز الأرض»، فتاريخية المنحى الوجودي لدى السوري، تنتصب صارخة بالسلام الذي لا يعني سوى الحرية، لكن شهوة التسلط والديكتاتورية تمنع المعول، وتبيح السيف كي ترتسم الحدود ظاهرة بين مكونات التعدد، التي لا يوحد بينها سوى العمل (المعول) من أجل استمرار الأرض/الوطن.
يستمر القهر معتاشا على الخلاف المفتعل بين حساسيات مجتمعية وجدت لتتعايش، فالأرض منبع المحبة، وفعلا ما يحدث في سوريا يفوق الخيال، ولعل عتبة الاعتراف في الرواية، تؤكد هذا الزعم: «قد يكون الواقع أغرب من الخيال»، هذه الجملة ربما تكون مفتاحا لمعنى يتطاير بين جملتي البداية والنهاية، فجملة البداية: «ضربات إزميل ناعمة تتنزل على الرأس»، على رأس»الكتلة الحجرية»، أي أن هناك نحتا، و«عبد السلام» الشخصية الرئيسية هو النحات، فعلى طول المسار السردي يستمر الإزميل على فترات متقطعة في ترسيم تفاصيل التمثال الذي لا يكتمل إنجازه، والصخر هو مادة الوطن التي تتحرك لتشكل بنيته الهندسية وأفراحه وأشكال استمراره، والجملة في نهاية الرواية تمنح هذا المعنى واقعيته ورومانسيته الفاعلة، إذ التعب في تخليق المنحوتة الصخرية يتشكل في مشهد قرباني مؤثر: «يترنح عبد السلام فوق دمه الساخن، ونزيفه»، فما بين التخليق من الحجر فوق أرض حلب وعراك العوائق لأجل ألا يسقط الإزميل: «الذي لم ينكسر أبدا»، يتأثث المشهد الوجودي في حاضنة الوطن الذي يرسمه دفق الدم الشبيه بما تقدمه جمالية الوطن في «وردة جورية حمراء»، وهو في النهاية المعنى الجوهري لتمثلات الفعل التحريري أو العيش في كنف الحرية المبتغاة.
يتداخل المشهد الوجودي في الرواية بتطعيم التجاور الإنساني، بتمثلات التعدد، فيتشكل فضاء الرواية داخل إطار الأجناس المختلفة والثقافات المتعددة والمنصهرة في بوتقة الوطن |
القومية وصراع التعدد:
يتداخل المشهد الوجودي في الرواية بتطعيم التجاور الإنساني، بتمثلات التعدد، فيتشكل فضاء الرواية داخل إطار الأجناس المختلفة والثقافات المتعددة والمنصهرة في بوتقة الوطن، فحارة «البندرة» تجمع المسلم واليهودي والأرميني، وتتداخل العلاقات ليحب «عبد السلام» المسلم «ليزا» اليهودية، ويحب «يحيى» المسلم «البتول» التي لم تذكر الرواية هويتها الدينية، ثم تصبح «إلين» الأرمينية التي تدرس الهندسة المعمارية ممرضة خلال الوضع الطارئ، هذه البنية الشبابية التي تشكل أس التعدد الثقافي والإثني، باعتبارها تمثل المستقبل، تقوم شاهدة على البعد القومي العربي في الرواية، ولكي لا تفرغ الصراع الدائر في سوريا من خلفياته التآمرية، لا تبرئ بعض الوجود اليهودي العريق في حلب، من التبعية للمشروع الصهيوني، إذ الوعي الوطني يفرض على اليهودي العربي أن يتأسس مساندا للقضية في بعدها القومي الوطني المحلي، وهذا الهاجس يسيطر على المتلقي، إذ يستمر مستريبا وضع اليهودي، إلى أن يكشف الروائي عن حقيقة «أبراهام» والد «ليزا»، بداية في تضاديته مع شخصية «أبو النصر» الفلسطيني، «أستاذ التاريخ الذي يمتلك أرشيفا ضخما موثقا»، والصراع يقوم بوجود العنصرين معا، الفلسطيني واليهودي، الذي تُثْبَت سرديا صهيونيته، إذ يكره «أبرهام» أبو النصر. تكشف الرواية أيضا حقيقة «أبراهام» في تآمره ضمن جمعية «أخوة الحليب» التي تعمل على تهريب النسخة الأصلية للإله «حدد»، وبالتالي تهريب التاريخ وتزوير الرواية الأصيلة في عروبة الوطن بمفهومه القومي، و«المتحف الوطني»، في حلب لا يمثل سوى الحاضنة التاريخية الأصيلة لعودة الوعي بالتاريخ في عدم خيانة «عبد السلام» لإنسانيته ووطنيته، إذ لا يساير «أبراهام» في الضغط عليه لتهريب التمثال. حينما تخفي الرواية دين «البتول» فهذا لا يعبر سوى عن إمكانية مسيحيتها، باعتبار الدلالة الإسمية، وبالتالي لا تدخل ضمن برنامج الإعاقة، كما اليهودي، لمسار التاريخ الوطني/القومي.
البتول.. ورمزية الإحالة في المرأة إلى الوطن:
يظل طيف «البتول» حائما في الرواية، ملقيا بظلاله على الحدث، إذ يتم اغتصابها من قبل زبانية النظام لموقف أبيها الرافض للظلم، وبعد ذلك ترمي بنفسها من فوق تلة، ولا يجدون لجثمانها أثرا، فتُنسج حول غيابها الحكايات، ولكن يبدو أن قصدية الناص ثابثة في إحالة «البتول» إلى هذه الوضعية السردية، لإنجاز الانبعاث والعودة إلى الحياة، إذ يظل طيف «البتول» محركا لتطورات المسار السردي، عبر ترائيها خيالا ليحيى المحب وعبد السلام صديقه، إلى أن تصل الرواية نهايتها، ويسقط «عبد السلام شهيدا: «ولومضة خاطفة تهيأت له البتول»، «فجأة.. ظهرت في سماء المتحف الوطني حمامة بيضاء..»، ففي اللحظة التي يغادر فيها الحياة «عبد السلام»، تنبعث البتول في حياة سيريالية، أشبه بالحلم، كحمامة تحلق فوق «المتحف الوطني». تتحقق وفق هذا البرنامج السردي إمكانية تأويل الحمامة على أساس السلام الذي لا يموت في سوريا انطلاقا من قرينة المقطع في رسالة الإله «حدد»، وموت «عبد السلام» أمام «المتحف الوطني» وهو يعيد إليه التمثال، يؤول على أساس الوعي بالتاريخ الحامل للسلام، والمخزن لإمكانيات التلاقي الكامن في شحنة المحبة في شخصية «البتول» التي تراءت له في احتضاره، والتي أضفت على النص بعدا سماويا بعدم تأكيد موتها. وابتعاثها طيفا يخيم على مسار السرد، يؤكد رمزيتها للوطن سوريا في صورة حلب التاريخ «أقدم مدينة مأهولة».
تنسج الرواية شخصية «الثريا العمياء» التي «ترى الأصوات وتشم الروائح!» بطريقة تجعل مسار السرد يعمد إلى نهاية يأملها السارد، على أساس إن التشوف مستقبلي بالضرورة |
أيضا اختفاء «ليزا» اليهودية ابنة «أبراهام» الخائن أثناء «الهجوم الشرس»، رغم «رغباتها وطموحاتها الجامحة»، لكنها كانت وفية لمحبوب القلب والطفولة «عبد السلام»، واختفاؤها وعدم اكتراث أبيها «أبراهام» لذلك، يؤكد قوة البرنامج السردي في إذكاء روح التعدد في حارة «البندرة»/حلب/سوريا، وهذا اعتبارا بموت عبد السلام حبيبها في القلب والطفولة، استشهاد التعدد في رمزيته يحيل إلى بعث وحدة الوطن في صورة «البتول» التي لم يأت السرد على ذكر دينها، وتركها للحب الذي لم يبح به «يحيى» لينبعث في صورة كل عاشقين يرسمان قلبيهما في صورة وطن مقبل.
تنسج الرواية شخصية «الثريا العمياء» التي «ترى الأصوات وتشم الروائح!» بطريقة تجعل مسار السرد يعمد إلى نهاية يأملها السارد، على أساس إن التشوف مستقبلي بالضرورة، لأنه رؤية من أعلى، وما يحدث لا ينفك كونه زائلا، وعمى «الثريا» يمثل لحظة راهن السرد، والواقع بالإحالة إلى وضع حلب/سوريا، لكن العمى الناظر، هو إمكانية الانفلات من الراهن المأزوم والتحليق في فضاء المستقبل المأمول: «أكمل التمثال، ولكن، لا تنس أن تضع فيه الفرح المقبل».