"تاريخ العيون المُطفأة".. الخيال والواقع ومصائر العمى

2019-12-18

عارف حمزة

التجريب هو السمة التي لا يتوقف الروائي السوري نبيل سليمان عن التفكير فيه، واستخدامها في كلّ مرة يكتبُ فيها نصاً، أو رواية جديدة. والرواية في الأساس هي حقل جيد وممتع وخطير في التجريب السردي.

وفي روايته الثالثة والعشرين، "تاريخ العيون المطفأة"، التي صدرت حديثاً عن داري "مسكيلياني" التونسية، و"ميم" الجزائرية، يُكمل سليمان هذا التجريب من خلال تداخل أمكنة خياليّة مع أمكنة حقيقيّة، وشخصيّات مؤلّفة مع شخصيات واقعية، وأحداث متخيّلة مع أحداث واقعية، على امتداد أكثر من ثلاثمئة صفحة.

أمكنة متخيّلة وأمكنة حقيقيّة

"بر شمس"، و"كمبا"، و"قمورين"، هي ثلاثة بلدان تنطلق منها حكايات وحيوات الشخصيات الرئيسيّة، والأحداث التي يريد الرواي إيصالها للقارئ. ومن الواضح أنّ البلدان الثلاثة متخيّلة، ألّفها سليمان لكي تسهل حركة الأحداث التي تجري عادة بين يديه من دون هكذا حلول أو أقنعة.

عادة ما يميل سليمان إلى عدم تأليف ذلك، ففي روايته السابقة، "ليل العالم"، يكاد القارئ أن يمشي في حارات مدنها، التي يعرفها، من شدّة الوصف الواقعيّ للمكان.

وصحيح أنّ تخيّل المكان، أو الأمكنة، ليس شيئاً جديداً على الرواية، ولا على الأدب بشكل عام، ولكنها تطرح السؤال حول سبب اختيار أمكنة متخيّلة لجريان السرد، خاصة أن أحداث هذه الرواية لا تدور أحداثها فقط في البلدان الثلاثة التي اخترعها سليمان؛ بل كذلك في أماكن حقيقيّة، أو مذكورة فيها، مثل اليونان، واليمن، وموريتانيا، وقبرص، وباريس...

الجواب عن هذا السؤال لن يكون أن الكاتب يواري جرأته في تناول الفساد السياسي والقضائي والتعليمي والوظيفي والأمني والديني.. باختيار أماكن غير موجودة على الخارطة، بقدر ما تعني "اللعب" مع القارئ الذي لا بدّ أن يفكر بإسقاطات تلك الأماكن والبلدان. والروائي السوري نبيل سليمان قد يعني بتلك البلدان الثلاثة بلده سوريّة. وقد يظن القارئ بأنّ سورية لا بد أن تكون "برشمس". وهكذا تمضي اللعبة مع كل خيط يسحبه سليمان من يد القارئ بدلاً من أن يرميه له.

 

""بر شمس"، و"كمبا"، و"قمورين"، هي ثلاثة بلدان تنطلق منها حكايات وحيوات الشخصيات الرئيسيّة"

 العمى كوباء

المجازات والمقولات التي ينثرها سليمان في كثير من صفحات الرواية هي إكمال لذلك اللعب مع القارئ، فالواقع السياسي والسلطوي والأمني يُديره الفساد الذي يؤلف منظومة القوانين الخاصة به خلال تراكم بطشها الذي جعل الاحتجاجات تنتشر وتزداد. ومنذ سنوات اندلعت احتجاجات متنقلة من دولة عربيّة إلى أخرى، وبالتالي لا يمكن تحديد أي منها بالضبط. ولكي يزيد سليمان من وتيرة هذا "اللعب" يجعل من يرأس البلاد رئيسة للبلاد، وذلك مفقود في كل الدول العربيّة، وربّما يرمي ذلك إلى شيء آخر ليس هنا مكان مناقشته.

وهذا الفساد الأمني يخترع أشياء تزيد من البطش، في الوقت الذي يجب أن يكون العكس هو الحل. فنجد أن فرعاً أمنيّاً يتحول إلى مشفى للعلاج النفسي، ولكن النزلاء هم السجناء أنفسهم. وهذا العلاج يعني إيصالهم إلى الجنون بطريقة بطيئة وسادية. تحويل معتقل إلى مشفى لا يعني تبييض صفحة السجون بإغلاقها، بل يتم اختراع طرق أمنية جديدة تؤدي لجنون السجناء المعارضين.

شخصيات كثيرة يقود سليمان مصائرها بسلاسة العارف. شخصيات تتنقل بين الأمكنة المتخيلة والحقيقية، ناقلة أحداثاً متنوعة من العمى، وهو ليس "وباء ضعف البصر الذي تحوّل إلى عمى. أقصد أيضاً هذا الخراب. هذه الوحشية والكل فيها سواء تقريباً. هذا الوباء أدهى وأمرّ من وباء العمى وضعف البصر".

تقول "آسيا" التي تريد أن تكتب رواية لمصائر ضربها العمى. ولكنها في كل مرة تريد أن تبدأ بداية جديدة مع كل خراب جديد، ولا تريد أن تقرّ؛ بأن هذا الخراب الهائل لا بداية وحيدة له.

شخصيات تجري إلى عماها

شخصيات كثيرة تكون الحكايات عنها، أو تأخذ دور الراوي وتحكي حكاياتها. فيلعب سليمان لعبة تعدد الرواة، من خلال شخصيات مبصرة، وضعيفة البصر، وعمياء. ولكنها كلها ذاهبة، ضمن الخراب العام، إلى عماها الأكيد.

الراوي يختلف وفق الشخصية التي تروي حكاية ما، أو حدثاً ما، فتنتقل شخصية الراوي بين الناس العاديين، وإمام الجامع، والحكواتية، في المقاهي والمثقفين والمعارضين والمدافعين عن حقوق الإنسان والرسام والعازفين والضابط والمحامي والنساء اللواتي يأخذن أدواراً محوريّة ومختلفة في هذا العمل. ولكن هناك بالطبع الراوي الغائب والعارف بمجرى الأمور، والذي يُسلم الروي إلى شخصية أخرى، ومنها إلى أخرى، بسلاسة تُحسب لسليمان. إذ لا يُمكن للقارئ أن يشعر بفجوات الاختلافات اللغوية والحكائيّة بين الشخصيات التي تبدو شديدة الواقعيّة.

حتى عندما يستعين سليمان بالافتتاح المتداول للحكايات القديمة، مثل افتتاحية كان يا ما كان، في سالف العصر والأوان، فإنه يُغيّرها، خاصة على لسان أبو وعد الصمدي، بقوله: "كان، لا مكان، وغير الله ما كان".

 

"نجد أن فرعاً أمنيّاً يتحول إلى مشفى للعلاج النفسي، ولكن النزلاء هم السجناء أنفسهم. والعلاج يعني إيصالهم إلى الجنون بطريقة بطيئة وسادية"

مشفى قلع وزرع العيون

الشخصية المحوريّة في هذه الرواية هو "مولود ماء العينين"، الذي ينتقل بين أماكن الرواية، وفي كل انتقال يطلبه الأمن لكي يُجنّده كمخبر عنده، ضد حبيبته وأخيه. هو شخصية محورية لأنه ينتقل بين أكثر الشخصيّات، ويعرفنا عليها واحدة بعد أحرى. الأمن يطلب منه الوصول لأخيه "عبد المهيمن"، مهرّب السلاح المعروف للمعارضة المسلحة، ولكن في صفقة ليست لحماية البلد، بل لتقاسم ملايين الدولارات بينهما وبين الضابط الكبير في وزارة الداخلية. مولود لديه أخ آخر هو "معاوية"، عقيد في الجيش والمخابرات. في آخر خطوات الرواية، التي تتألف من 48 فصلاً، يختفي مولود بشكل غامض، وهو الذي يتغير بشكل غامض، بينما يظهر معاوية الذي كان مختفياً عن أحداث الرواية طول أكثر من تسعين في المئة منها.

معاوية يظهر في آخر الرواية، ليقدم الحل لرجال الدولة، بعد إصابة حتى المعاونة الأولى للرئيسة بالعمى، وهو قلع عيون السجنان السياسيين الذين أصيبوا بالجنون في ذلك المعتقل النفسي، وزرع عيونهم للسياسيين والطبقات المخملية. وإطلاق سراح عشرات الآلاف المقتلعي العيون والمصابين بالجنون في الوقت نفسه. هكذا حتى تنتهي الرواية بإصابة معاوية نفسه بالعمى.

يختلف العمى، الذي يكتب عنه، ويحكي حكاياته، الروائي نبيل سليمان، عن العمى الذي قصده الروائي البرتغالي خوسيه ساراماجو في روايته العظيمة التي حملت اسم "العمى"، رغم أن الروايتين تقولان المقولات ذاتها عن عمى البصيرة والوحشية وفساد من يتسلم السلطات، حتى لو كان أعمى.

 

"الشخصية المحوريّة في هذه الرواية هو "مولود ماء العينين"، الذي ينتقل بين أماكن الرواية، وفي كل انتقال يطلبه الأمن لكي يُجنّده كمخبر عنده، ضد حبيبته وأخيه"

الانتقام من التاريخ المتراكم

العمى عند سليمان ليس العمى الناتج عن فقدان البصر. هناك شخصيات تصاب بالعمى المعروف، وهناك مَن يُطلق عليهم لقب الأعمى، رغم أنه يبدو ضعيف البصر، أو مبصراً، بينما ضعيف البصر هو المبصر. وهكذا تتوالى المجازات في كل صفحة، وفي كل حكاية، مستعيناً بالأحداث التي هزّت الدول أثناء "الربيع العربي"، وكذلك بالفلسفة والفقه والدين والقصائد القديمة والأغنيات، وشهادات القتل والتعذيب والسجون، وبالرسائل الشخصية الحميمة التي تصل إلى رجال الأمن قبل أصحابها.

رواية "تاريخ العيون المطفأة" تبدو انتقاماً من كلّ ذلك "التاريخ" المتراكم، في شتى المناحي. التاريخ الذي تراكم حتى وصل المواطن إلى عبد وضحية، والمسؤول إلى جلاد وحشي ومتوحش، وفوق كل شيء، سواء القانون، أو الوطن.

الرواية مشغولة بلغة تتغير طبقاتها وطرق سردها في جريانها حول هدفها الواضح، وهي الأسطر الأخيرة من الرواية، التي يكتبها سليمان على شكل نقاط من دون كلمات. وهي نهاية اللعبة للألعاب التي مارسها طوال الرواية، لتبدأ بعدها ألعاب التأويلات التي قد يُفكر فيها القرّاء والنقاد على حد سواء.

التجريب الذي يشتغل عليه سليمان هنا، بالإضافة إلى الألعاب والمجازات، هي المتعة والبساطة التي يكتب بها عن الوحشية العالية والخراب الكبير.

 










شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي