لعبة السلطة والسكون المتحرك في قصص "المشي خلف حارس المعبد"

2019-12-12

عبدالحفيظ بن جلولي*

تعتبر القصة القصيرة من حيث اعتنائها بالتكثيف، فضاء واسعا لاستنبات الدلالة والسؤال، ذلك أن السرد القصير يمنح القاص فرصة للعب بالمعنى، باعتباره يؤول إبداعيا إلى تخييب أفق المتلقي وتهجيسه، وهو ما يبدو جليا في المجموعة القصصية «المشي خلف حارس المعبد» لمحمد الكامل بن زيد التي يرسم استهلالها المفارقة بين البداية والنهاية، من باب «السقوط» الذي يؤدي معنى النهاية، لكنه ليس كذلك على الدوام، كما تشير إليه مقولة غاندي: «ليس كل سقوط نهاية، فسقوط المطر أجمل بداية»، ولعل عنوان المجموعة يبني ظلاله داخل مضمونية الاستهلال، فالمشي لم يأت محددا بنهاية، وبالتالي فهو يجدد البدايات، تلك المقرونة بالسقوط، الذي لا يكون إلا حيث تكون العقبة، ومضمونية «الحارس» تختزن شحنة الضبط والقوة الأحادية، تلك العناصر التي ترسم معنى السلطة، التي تعني: «بادئ ذي بدء، تعددية علاقات القوة المحايثة للميدان التي تمارس فيه بوصفها المكونة لتنظيمه»، كما هي عند ميشيل فوكو في «جنيالوجيا المعرفة».

 العجز الناهض والسكون المتحرك:

مفهوم البدايات في هذه المجموعة في جانب منه يتعلق بمفهوم سلطوي، «فهذا الذي ظل يحرس معبدهم منذ سنين وسنين»، استمرار حراسة المعبد وتأكيد المدة المطلقة «سنين وسنين»، يكرس مفهوما اجتماعيا يُؤول سياسيا على أساس سلطة ما تمنحها حراسة المعبد للقائم عليه، وهو ما ستؤكده الجملة التالية: «وصورة قاتمة تأتيه من الأسفل حيث الأحلام مؤجلة»، فإذا كان المعبد كرمز للطقوسية متعاليا، فإن ما أسفله مجتمع أحلام مؤجلة، لكن طاقته الانبعاثية مستقرة على فوهة بركان، «عجوز في أرذل العمر تتصدر الجموع حاملة بندقية قديمة»، فالمسافة الفارقة بين طقوسية المعبد وسكونية المجتمع، شارع يستنهض قوته من عجزه (عجوز).

يعتلي المكان في المجموعة تطورا وتنوعا، ففي «الغابة» تهرب شخصيتان صغيرتان: «مضيا ينتشيان عبق الطفولة»، هروبا من رعب المدينة: «بعد أن أرعبتهما المدينة»، وعلاقة الصغر في السن بكبر المدينة إنما يستقر مفهومه في سلطة الكبار في المدينة على ضعف الصغار، «كل حركة منهما معقودة بصراخ عنيف وضيق شديد»، وهو ما يبرز الفرق بين المكانين، فالمدينة رغم تحضرها إلا إنها تخفي سلطة القهر، والغابة رغم توحشها تفجر كينونة المشاع التشاركي والمعاشي، وهو ما تخزنه الجملة الأخيرة في هذه القصة «الابتسامة الطفولية»، التي غادرا المدينة بسببها ليجدانها في الغابة، رغم «اللون الرمادي الذي اعتراهما»، هذه القصة يتعالق عنوانها جماليا (أجراس لا تدق) مع فكرة البداية والنهاية ورابط السقوط، فالأجراس تدق في حالات التأهب، وفي حالات السكون فقط، صورتها تؤدي مفهوم القرع بدون حصوله، وهو ما يجمع حالة سكونها إلى حالة حراكها، ومؤداها أن عوالق الروح في القرع المقدس تناهض كل سلطة، وهي مستمرة مثيرة شكل البدايات في كل نهاية.

 مجتمع القبيلة أو مصادرة الوعي:

لا يمكن للسلطة التي تأتمر بأمرها جماهير عابثة بمصيرها إلا أن تستبد بأمرها، وتناور كي لا تغرد هذه الجماهير خارج سربها، فقصة «أعمى الطريق»، ومن العنوان يتحدد مسار ومكان العمى ، فالمسار يتأسس في الحركة، والمكان يتحدد بالطريق الذي تتم عليه الحركة، «طلب منه بأدب أن يعبر به الطريق فهو أعمى كما يرى»، فالجملة بعد أن تحدد وظيفية المشهد تخرق ميثاق متابعة القارئ بمشهد غريب: «غير أن الشيخ أثناه.. رويدك.. تمهل.. انتظر سيارة أخرى مقبلة».

تكشف هذه الغرابة عن المعنى السلطوي في الجملة الأولى التي تتأسس كاشفة لحالة مجتمعية يقودها عمى التسلط الشائخ المتحرك منذ وعي القبيلة في الجهاز التاريخي للمجتمع، إذ لا يعقل أن الأعمى يرى، وبالتالي فالعمى تشكل بنيوي يكبس على وعي المجتمع ويوجهه، وهو ما تتشبث به السلطة في حالاتها الأشد تنمرا واستبدادا، وبالتالي لا معقولية العمى البصير، تتكرس تدريجيا لتنطلي على مجتمع مهيأ للاستسلام لسلطة ترى في مكانه، فيتحول طواعية إلى حالة المجتمع «المستقر» الذي لا تريه السلطة إلا ما ترى، «يا شيخ أريد أن أعبر الطريق فأنا أعمى كما ترى؟» لكن العمق المشهدي في القصة ينبثق من دلالية ما بين قوسين التابع للعنوان الرئيس: «أعمى الطريق (انتهى الدرس)»، ومفهوم الدرس ينتقل بالوعي إلى الحركة الكامنة في مفهوم «العبرة»، التي لا تتشكل سوى للدفع بالوعي إلى الحركة، فلا ينتهي درس إلا ليبدأ وعي، وهو ما يتعالق بنيويا مع مفهوم البداية والنهاية ورابط السقوط في الاستهلال.

 أمداء اللعبة / سلطة الواحد:

يعلن النص علاقاته الكامنة حين يقترب من النبض الثقافي للقارئ، وليس حين يباشر في كشف مضامينه (النص)، فنص «جوجو يسرق سفننا الورقية»، لا يعلن فقط عن تهكمية طفولية اتجاه شخصية ما (جوجو)، ولكنه يضع الإطار الذي تلعب فيه هذه الشخصية انطلاقا من حركتها داخل حيز معروف بالصرامة والضبط والتلويح بالعصا خاصة في مجتمعاتنا الأبوية. يعيد النص تركيب شخصية المعلم ضمن مفهوم سلطة الإخضاع، «معلمنا سيتزوج هذا الخميس، وهذا معناه أننا سنلعب طويلا»، فسلطة المعلم على التلاميذ تضع مبدئيا علاقتها في إطار الضغط، وهذا ما يفهم من «سنلعب»، واللعب حركة عفوية تتطلبها حركة الأطفال في الحياة، وهي عكس الضبط البعيد عن روابط الود بين السلطة والأشخاص، ما يتسبب في استفراد السلطة بمركزها، وعزل الرعية عن ممارسة حقها في الحياة المرموز له نصا باللعب، «سبق لي أن سمعت عنها من أمي.. من يقف وحده.. من يجلس وحده.. من يأكل وحده.. من يفكر وحده.. من يتحدث وحده.. فهو يا ولدي والعياذ بالله به مس من الشيطان»، حالات تتحقق في واقع السلطة المهيمنة العازلة لذاتها عن حركة التاريخ، لأن التاريخ يكمن معناه في الشعب، كما يرى الراحل محمد بوضياف، ولأن أحادية الموقف السلطوي لا تؤدي في النهاية إلا إلى سوء العاقبة وانهيار النظام والاستبداد، فسياق الجملة أدرج «الشيطان» كقوة غيبية مهيمنة تفعل أفاعيلها في الوعي، انطلاقا من توهمات ينتجها حولها الوعي السلبي، وبالتالي فالممسوس لا يتحرك وفق منظومات منطقية، بل يخضع لمنظوماته الشاذة والمتسلطة، لكن الوعي المعارض حين ينهض يتجاوز نظام السلطة الأحادي ويخترق أسواره حتى لا يكاد يبين لأن قوة الإرادة الحرة تفوق قوة الضغط السالب، ولهذا جاءت نهاية هذا النص: «لقد مرت! ولم أشعر باقترابي منهم.. وأنا أتمتم معهم: من؟»، قد يكون التهكم والسخرية من هذه المجهولة التي مرت، ونحن عادة لا نستفهم حول مرور شيء

تسير المجموعة في معظم قصصها نحو تنويعات لمفهوم السلطة، وتنتهي جل قصصها باستفهامات، لعلها تمثل الموقف من «تعددية علاقات القوة» وفق حالات سكونية الذات وفاعليتها، ومسميات العناوين جاءت مطابقة تماما لدلالية القوة المهيمنة والفضاء الساكن، وهو ما يعكسه «بيت مظلم»، حيث يتعالق السارد مع صورة الأم في غيابها الأبدي الذي لا يجعل من البيت المظلم إلا صورة أخرى للقبر، وهو ما يحيل إلى المجتمع حين تشـــــتد عليـــه قبضة الســــلطة القاتلة، إلا إنها ليست كذلك على الدوام، فالتغيير هو مناط الحركة في الحياة أو الوجود في العالم بتعبير هايدغيري أصيل، الذي تشمله إرادة الموجود، حيث ينتفض في نص «ثورة نقاهة»: «قالت: أوحي إليّ»، والتأنيث يحيل تأويلا إلى السلطة والتعريض بها وبمن يجلل موقفها: «أصلبوهما»، وهو ما يعيد مفهوم السقوط الذي ينتج أجمل بداية.

  • كاتب جزائري






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي