جاك كيرواك أكثر الشعراء الأميركيين تأثيرا

2019-11-30

محمد الحمامصي*

يعد جاك كيرواك من أبرز كتّاب جيل الخمسينات الأميركي “جيل البيت”، وهو شاعر وروائي متعدّد المواهب، نال الشهرة من عفوية نثره، وعرف بكونه أحد مؤسسي جيل البيت، ولُقّب في الكثير من المناسبات بـ”ملك جيل الإيقاع”. وتعكس أعماله فضلا عن سيرته الشخصية، إطلالة مختلفة على العالم. ويعدّ كيرواك من الأقانيم المبهرة في تاريخ قصيدة النثر الأميركية التي أخذت منحى مغايرا كليا عن تاريخ قصيدة النثر الفرنسية.

ترجم الشاعر المصري محمد عيد إبراهيم مؤخرا مختارات لجاك كيرواك في كتاب عنونه بـ“ملاكي التالف” من ديوان الشاعر “قصائد على كلّ لون”، ثم ألحقه بترجمة ديوانه الآخر “الكتاب المقدس للأبدية الذهبية”، وهو قصيدة نثر طويلة، أنشأها وهو ناسك بوذي في اليابان.

كما يضم الكتاب مجموعة من قصائد كيرواك القصيرة على نمط قصائد “الهايكو” اليابانية. وقد صدرت المختارات عن دار يسطرون في القاهرة، بالاشتراك مع منشورات أنا الآخر، بمقدمة ومقالين الأول للمترجم والثاني لرفيق درب كيرواك الشاعر ألن غينسبرج.

شاعر الأصوات

يقول عيد إبراهيم إن “جاك كيرواك (1922 ـ 1969)، متعدّد المواهب، يكتب الرواية والشعر والنقد والتأمّلات. من أصل فرنسي كندي. انفطر قلبه بعدما مات أخوه في التاسعة. انضمّ إلى البحرية، لكن سرعان ما فصلوه بتشخيص أنه مصاب بالفصام. فعاش شريدا من صيد البحر فترة، وهو النمط الذي استلهمه في رواياته الأخيرة. نشر روايته الأولى ‘البلدة والمدينة’ 1950، ثم انخرط قليلا في الدراسة بجامعة كولومبيا. نال الشهرة من عفوية نثره غير المألوف، كأنه يحتاج لمزيد من إعادة السبك”.

ويشير إلى أن أعمال كيرواك لا تعدو كونها أعمالا عن سيرته الشخصية، فهي تعكس علاقاته الحميمة لكن العاصفة. ويبدو أنه قد تحرّر من التوهّمات نتيجة حسّه المرح ورغبته في السخرية من الكتّاب الراسخين. علاوة على انتمائه الطويل إلى الصوفية، حيث أمضى سنوات في اليابان مع بعض الفرق البوذية، وهو ما منحه غاية تلقائية في استعماله الأدب، فلا أحد يرغمه على شيء، بل يملك حياته عن حق من “قوة الاستغناء”.

وقد ألحق عيد إبراهيم ترجمته لمختاراته من “قصائد على كلّ لون”، الذي نُشر بعد وفاة كيرواك المفاجئة، وهو في الأربعينات من عمره، ديوانه الآخر “الكتاب المقدس للأبدية الذهبية”، وهو قصيدة نثر طويلة في ستة وستين مقطعا، وهي تجربة صوفية عالية، أنشأها وهو ناسك بوذي في سفرياته باليابان، مع عدد من أصحابه الشعراء من “جيل البيت”، الذين قاموا بثورة إبداعية مدمرة في الشعر الأميركي، فترة الخمسينات من القرن العشرين.

أما رفيق درب كيرواك وشريكه في تأسيس “جيل البيت” آلن غينسبرج، فكتب في مقاله “كان شاعراــ قال كيرواك مرة ‘أنتم تدعون أنفسكم شعراء، تكتبون قليلا من الأبيات القصيرة، وأنا شاعر، أكتب فقرات وصفحات وأحيانا صفحات طويلة‘، قال هذا خلال فترة الخمسينات، في رسالة كتبها من مكسيكو سيتي، تضمّ مجموعة من قصائده. أطلق عليها وليم بوروز ‘قصائد نثر عارية‘، كان يكتب أحيانا عبارة لا يدرك معناها، لكنه يدرك موسيقاها، مستفيدا من توماس وولف، هيرمان ملفيل، شكسبير، رابيليه، شيلي، إدجار ألن بو، وغيرهم على النمط الرومانسي. ومن الحداثيين؛ ويتمان، إليوت، إزرا باوند، سيلين وجينيه. كما كان يكتب بروح من دوستويفسكي وجوجول. ولا ننسى أنه استفاد من روحانية موسيقى باخ”.

 

لجاك كيرواك أذن فائقة الحساسية، أُذن معصومة من الخطأ، قد تسمع أنماطا مختلفة وتخلق أنماطا مختلفة

وأضاف “ذاع تأثيره عبر العالم، ليس روحيا فحسب، من ثقافة شبابية كونية، بل من تقنياته الشعرية أيضا. لقد نبّه بوب ديلان فقد سألته مرة ‘كيف تعرفت إلى شعر كيرواك؟’، بعدما راجعنا بعض الأغاني وقرأنا ألحانا على قبر كيرواك عام 1976، وكانت الكاميرات حولنا، جنبا لجنب، تحت أشجار عالية، وسُحب متقلبة، ونحن نختفي حول شواهد القبور في جزيرة بعيدة”.

ردّ ديلان “سلّمني أحدهم قصائده التي كتبها في مكسيكو سيتي عام 1959، ففجرت دماغي”. قال هو أول شعر كان يتحدث لغته هو. كنت أحاذي تجربة كيرواك الشعرية بل وأفكاره وأصواته مباشرة على الصفحة. فالشعر “يكتب العقل”، كما صرّح شوجيان ترانبا، شاعر الهايكو البوذي من التبت، كلازمة لشعاره “الفكرة الأولى، هي أفضل فكرة”، فهي تتوازى مع صيغة كيرواك “العقل تشكيل، والفنّ تشكيل”. ولدى قراءة قصائد كيرواك على ذلك المعلّم البوذي الكبير في طريق طويل يسميه “ذيل النمر”، ضحك طيلة الطريق وهو ينصت “لا يشبه الغضب أن تتذكّر القبضات.. العجلة ترنّح مفهوم اللحم.. بطريقة الدمية وهي تقف، ساقاها محنيتان بأحلامي، وتنتظر خدمتي.. فلا تتجاهل أجزاء العقل الأخرى..”. وحين خرجنا من السيارة وقف على الرصيف قائلا “إنه استعراض كامل للعقل”.

وتابع غينسبرج حديثه عن بوب ديلان وتأثره بكيرواك “في اليوم التالي بلّغني ‘لقد ظللت أسمع صوت كيرواك طيلة الليل.. إنه منحني فكرة جديدة عن الشعر الأميركي، من شاعريته الخاصة.

وبعد عامين، تأسست ‘مدرسة كيرواك لتمزيق أوصال الشعرية’، وذلك لعمل نمط من الوفاق بين ممارسة تأملات الحكمة الشرقية الكلاسيكية مع الفكرة الصريحة النشطة والتلقائية الغربية، وهي فرضية صحية بين العقل الشرقي والغربي”.

ويرى غينسبرج أن شعراء النهضة الجدد في سان فرنسيسكو كانوا فضوليين، مهتمين، متأثرين، يستلهمون أحيانا عزلة كيرواك بقوة أصلية، في آذانهم كان صوت كيرواك، يتلمّسون لغته الأميركية دون عوائق. وكان روبرت دانكان مندهشا من “الإيمان بقصيدة النثر المعاصرة وتقنياتها”.

كما تحدث روبرت كريكي في ذلك الوقت عنه “لكيرواك أُذن فائقة الحساسية، أُذن معصومة من الخطأ، قد تسمع أنماطا مختلفة وتخلق أنماطا مختلفة، ضمن أصوات اللغة وإيقاعاتها، مثل لغة الحديث المنطوق، أُذن فائقة الحساسية، بالطريقة التي يستطيع بها أن يعيش ويبني شعره باستمرار بصورة طبيعية”.

وأوضح “قبل كيرواك، كانت المعايير تتراوح ما بين كمنجز إلى بريفير، لكن كيرواك جعلها صوتا بشريا، لا كمحاكاة، بل كحقيقة. إنه صوت يتكلم. ذلك ما فعله في كلّ من الشعر والنثر، وهو ما أثرّ بي”.

كان كيرواك كاتبا، كما علّق بوروز، لأنه “يكتب”، وتمرن على الكتابة، وكانت الكتابة بالنسبة إليه تمرينا مقدسا، كما وصف هو بنفسه “قدّمت ابتهالات في هذا الحلم”. وكانت رؤاه المجمّعة القدسية عن الوجود الفاني ذات منظور كلي عن العذاب والزوال من عاطفة بوذية وعاطفة كاثوليكية معا، تمنح حافزا سامقا ولعوبا على الدوام، وهي للعقل أقرب شعريا. وقد سابقه أولسون وليو ويلش في كتابة الهايكو على النمط الأميركي.

 ما بعد رامبو

رأى غينسبرج أن ثمة شيئا ضخما في كتب كيرواك الشعرية بالموازاة مع مقاطع شعره النثرية في رواياته، سواء كانت الصور الوصفية أو في رؤيته لكتابة الهايكو، ولقطاته اللعوب، واستلهاماته الناضجة التي نُشرت بعد وفاته في ديوان “قصائد على كل لون”.

إن كيرواك شاعر أساسي، وربما منويّ، في النصف الأخير من القرن العشرين بأميركا، ومن هنا جاء تأثيره على بوب ديلان وعليّ شخصيا ضمن آخرين، وهو تأثير شعري قد يمتد إلى الكون بأسره. كان كيرواك  شاعر الشعراء، كما كان شاعر الناس، وشاعر البرج العاجي، مثل رامبو الذي دارت شهرته على الشباب عبر العالم. لكن العجيب الغريب أنه لم تشمله المختارات الشعرية قياسا على ما شملت به الكثير، مثل أوهارا، آشبري، وأنا، أولون، كريلي، كوخ، لامانتيا، سنايدر، ليفرتوف، إلخ. فيا له من فقدان ذاكرة كليّ! ولا يزال تأثيره غامرا على أجيال كثيرة من بعده، بما اخترق به الحالة الشعرية التي كانت شبه راكدة قبله ومعه.

لكن أين نصوص كيرواك؟ فهو لا يكاد يكون موجودا على مقاعد الدرس في الجامعات إلا قليلا، على رغم وجود شعراء متوسطين وأسماء مغمورة وتجريبية متواضعة هناك. وأين كيرواك وسيط الثورة الأدبية الأميركية؟ حتى الآن لا يوجد كاسم “تأسيسي” في المختارات الشعرية!

 

 

  • كاتب مصري

 

 

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي