
نادية هناوي*
للذائقة الشعرية شكلان من المعايير، الشكل الأول عتيد شائخ يتصف بالصلابة والخشونة والفحولية، ويمجد الماضي ولا يكترث للحاضر ولا للمستقبل، وعادة ما تمد الحاضنة الثقافية الرسمية هذا الشكل بسمات التمركز والنخبوية.
والشكل الثاني معاييره جديدة فتية تتصف بأنها ناعمة ولينة ليس فيها تمركز ولا نخبوية، وهو ما يجعل الذائقة تماشي نزعات الانفتاح، دامجة الرسمي بالشعبي، ومداخلة المراكز بالأطراف. والشكل الأول هو السائد في ذائقتنا الشعرية العربية، والسبب أنَّ جذور الشعر عندنا راسخة تاريخيا في العمق، إلى درجة أن الذي يتفرع على السطح منها هو الآخر متجذر ومتأصل في صورة مركزية ذكورية.
وهذا ما يجعل قسمًا من نقادنا المعاصرين ينطلق من معايير الذائقة التي تحاكي السلف الشعري وتجاريه ممثلا بقصيدة العمود السامقة، متعاملا بتعال مع قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر وقصيدة الومضة والهايكو وغيرها من الأشكال الشعرية الجديدة.
ولا غرو أن مركزية تذوق الشعر بتعال وفوقية لن تحقق له الدوام، وما كان لسارتر أن يرفض التعالي في الشعر إلا خوفا من التاريخ، وهو القائل: «إننا إذا علونا لنحكم على زماننا فإن المؤرخ القادم سيحكم عليه من علو أكثر أيضا» منتقدا تعامل النقاد مع الشعر بمركزية من ناحية أنهم ما عادوا ينظرون إلى الشاعر مجنونا أو قاتلا أو ساحرا يصنع الغرائب كأنه كراكوز، بل صاروا يريدونه مدير بلدية، ساخرا في الآن نفسه، من وصف الشاعر بأنه ثروة قومية، متعجبًا من أنّ بعض الشعراء يتحدث عن شعره أكثر مما يتحدث عن غرامياته وأحواله.
وطبقا للتوصيف النفسي لاشتغال الذائقة فإنها قد تكون معتلة وقد تكون متعافية، بيد أن التجربة في أي لون من ألوان الأدب ترتبط بحواس المبدع وعاطفته قبل أي شيء، ولا يمكن بحال من الأحوال أن نصف إحساسًا بأنه غير صحيح أو خاطئ بسبب نسبية مقاييس الإبداع، وعدم قطعيتها.
والأدب ليس فكرًا، وإنما هو جمال نابع من تجربة، وأي تجربة تنصهر في قصيدة هي عبــارة عن إحساس خامر المبدع أولا، فانتجه شعرًا ثانيًا، ليتم تلقيه سماعًا أو قراءة ثالثا.
ولا تكتمل أطراف العملية الإبداعية الا بتجاوب بعضها مع بعض فإذا لم تتجاوب انعدمت الجمالية الإيحائية. وكلما كانت الإيحائية متحققة استجاب المتلقي وتمت عملية التوصيل. والإيحائية في الشعر هي عماد الذائقة وسنام وعيها. ولا وجود لشعر لا ترافقه ذائقة ما، بها تتوكد فاعليته الإبداعية في توصيل مراميه الأدبية، التي فيها تتحقق أصالة الوعي الإنساني الذي هو مصدر المعنى المنشود ومصداق العدالة الفنية.
والسؤال هنا متى تُرضي الإيحائية الذائقة الشعرية؟ وهل صحيح أنه كلما كانت الإيحائية قوية عظمت الذائقة الشعرية؟
إن نجاح القصيدة هو قدرتها على التعبير الإيحائي الذي لا يعني بتاتا الانجذاب إلى لون شعري واحد، أو تقديس شكل على حساب أشكال أخرى، وإنما تذوقه على أساس جمالية إيحائيته ولهذا قدّم أرسطو المأساة على الملهاة والملحمة، وفضّل الشعر على التاريخ ورفع من أهمية التخييل.
والذائقة الشعرية في مرحلتنا ما بعد الحداثية، لا تنظر للشعر بوصفه أجيالا وفئات، وأوزانا ولا أوزان، وإنما بوصفه قوة خفية تحطم السكون، كي تحل محله نظاما هارمونيا |
وإذا كانت الذائقة الشعرية قائمة على إيحائية الشعر التي بها يتخذ الوعي شكلا فلسفيا، فإن هذه الذائقة هي الملكة التي تحدد لنا إن كان في الشعر إيحاء أو لا. ولأنها كذلك لا تعرف زيفا ولا شغبا ولا سطوة، بل هي الإحساس بالواقع بقصد التحريض ضد واقعيته من دون تردد ولا توان.
ولكون الذائقة الشعرية لا تنظر للشعر متعاليا مترفعا، لذا هي لا تفرق بين شعراء صغار وشعراء كبار، ما دام هؤلاء قد بلغوا النبوءة ناظرين إلى المستقبل. وهكذا رحب متلقو شعر مظفر النواب بابتداعاته، ولم ينتقدوه، والسبب أن نبوءاته هي التي ارتقت بوعيهم إزاء سلسلة متغيرات المجتمع الواسعة التي فيها الإنسان هو الكيان الكلي، لا الكيان المتضعضع المصاب بالتفسخ والسبات والخنوع، ناهيك عن حقيقة أن النواب لم ينظر إلى شعره نظرة تعملق، وإنما ظل متعاملا مع شعره كهواية تصويرية تصل بالأسلوب المحكي إلى لغة شعرية موحية.
ولا خلاف أن الشاعر كلما تخلى عن النظر إلى نفسه سيد التجربة، استطاع التخلص من عبوديته للقصيدة فلا يرضخ، فتراه صغيرا ولا يتركها تتعملق أمامه فتبدو كبيرة. وهكذا الحال نفسه مع الذائقة الشعرية فهي بالأساس حرة؛ وإلا ما كانت تنفر من الراسخ وتستجيب للمتغير، وفي شعرنا المعاصر وجدنا الذائقة تستجيب لقصيدة الرؤيا عند سعدي يوسف وأدونيس ويوسف الخال وأنسي الحاج، وتتفاعل مع شعر أحمد مطر في لافتاته، أو تتعجب بتدويرات حسب الشيخ ونثريات فاضل العزاوي وسركون بولص، وتنافذ الأشكال عند كاظم الحجاج وأسطوريات زاهر الجيزاني وخزعل الماجدي وهوس حسين مردان العاطفي ويوميات كاظم نعمة التميمي وتعتيمات علي جعفر العلاق.
والجميل في الذائقة الشعرية أنها ليست متعجلة، ومن ثم هي لا تحرم الشعر من استضافة التجارب المستحدثة والتليدة، والذائقة الشعرية في مرحلتنا ما بعد الحداثية، لا تنظر للشعر بوصفه أجيالا وفئات، وأوزانا ولا أوزان، وإنما بوصفه قوة خفية تحطم السكون، كي تحل محله نظاما هارمونيا. وهذا ما فعله بوشكين الذي نقل الشعر الغنائي إلى الرواية الشعرية، وعدَّ النثر بناء طليقا من الناحية الإيقاعية والصوتية بالنسبة للكلام الأدبي. ولا تتشكل الذائقة من دون وعي يجمع أفق الشعر بأفق الفلسفة، لتكون النتيجة المنبثقة عن هذا الجمع تنظيرا نقديا. وإذا ما حققت الذائقة الشعرية ارتكازها الفكري، وتعاملت مع الشعرية بفلسفية، فعندها سيرتفع الوعي بالشعر كقيمة جمالية عليا هي ليست متعالية ولا أنانية.
ولا يخفى ما للثقافة النقدية من أثر في تربية الذائقة الشعرية وتخليقها على أسس صحيحة وهذه مسؤولية ينبغي أن يضطلع الوعي النقدي بها، وقد عمل نقاد كثيرون على رفع شأن القصيدة المعاصرة، موجهين الذائقة الشعرية الخاصة، وربما العامة توجيها حداثيا، آخذين الذائقة نحو تقبل التجريب الشعري، مبتعدين عن إغراءات العمود واستقطابات الظروف المرحلية الاجتماعية والتعبوية والعقائدية والمناطقية، بعكس بعض النقاد الذين ظلوا قابعين في منطقة الذائقة الشائخة، منتقدين الجديد الشعري، واضعين العصا في عجلة تطور القصيدة المعاصرة، التي صارت تثير فزعهم وتقلقهم.
ولن نجانب الحقيقة إذا قلنا إن استقطاب المشهد النقدي للرؤى والتصورات الكلاسيكية، سبب من أسباب تحجر الذائقة الشعرية. ولو تخلى المشهد النقدي عن دغماطيته وناصر التطوير المعياري والجمالي للشعر عمودا وتجريبا وتفاعلية رقمية لارتقى بالذائقة، أو على الأقل لردم الهوة بين ذائقة شائخة وذائقة فتية.
ولا تقتصر مسؤولية النقاد على توجيه الذائقة الشعرية حسب، بل تشمل أيضا توحيدها رسميا وشعبيا داخليا وخارجيا، وهذا ما تحقق على صعيد التجارب الشعرية داخل العراق وخارجه. فعلى الرغم من أن شعرية الخارج العراقي توزعت بين المنافي والمهاجر، إلا إنها لا تفترق عن شعرية الداخل العراقي، فالذائقة واحدة ارتفاعا وانحدارا. وهذا هو السبب الذي حال دون أن تكون لشعراء الخارج العراقي عصب أو جمعيات تمثل شعريتهم بعكس ما جسده شعراء المهجر اللبناني.
ولولا فاعلية النقد عندنا لما استطاع أن يستقطب التجارب الشعرية كلها، مسهما بذلك في صنع الذائقة الجمالية العامة، محررا إياها من المفاهيم التقليدية، وموجها لها نحو التجديد.