
عبدالحفيظ بن جلولي*
■ كما يعاني الكتاب من «قفلة الكتابة» أو «متلازمة الصفحة الفارغة»، أي عدم القدرة المؤقتة على الكتابة بسبب غياب الإلهام، أو الخوف، كذلك القارئ المنتج خصوصا، يتملكه الخوف من إمكانية فقدان الرغبة في إتمام قراءة العمل، الذي بين يديه، ولم تكن كذلك الـ»رواية سيرة» «أنجلينا فتاة من النمسا» لمولود بن زادي، التي تنطلق من إثباتها نصا كرواية واقعية، «قصة يعيش لحظاتها ويسجل تفاصيلها بكل عفوية وصدق مثلما تجري في الواقع… وإن صدمت تفاصيلها المجتمع من حوله».
الرواية الواقع والصدمة:
ينهي بن زادي روايته السيرية بهذه الجملة: «مقتبسة من قصة حقيقية»، رغم إخبارية الجملة فإنها تظل مبهمة، لأن سؤال العلاقة بين الكاتب وأحداث الرواية تظل ملحة، باعتبار جزائريته، والشخصية الرئيسية «شفيق» جزائري، لكنه لم يؤكد نسبة الأحداث له، وهو ما يمنح النص موقعه بين الفني المخيالي والواقعي، إذ القارئ باعتباره «غائبا عن فعل الكتابة»، بتعبير بول ريكور، أي خيالي بالنسبة للكاتب، فهو بالضرورة يحتاج إلى جرعة التخييل حتى في الكتابة الواقعية، وهذا ما وفرته «أنجلينا» في سرديتها، ولعل الصدمة التي هيأ الروائي القارئ لمواجهتها، أحدثت نوعا من التحفيز لقبول ما قد يصدم لا على أساس تبنيه، ولكن على أساس الحفر في جزئياته، أي ما الذي دفع الكاتب إلى طرح هذه الصادمية والإعلان عنها؟ حينما كتب الروائي المغربي محمد شكري روايته «الخبز الحافي»، شكلت بالنسبة للوعي المتلقي العربي صدمة، لأنها كتبت بكل عراء لحظة الروائي الواقعية والمأساوية، وبذلك عُدت من الروايات السيرية التي قالت كاتبها بكل صدق وواقعية، وامتصت هذه الصدقية المأساوية كل عراء الرواية، وكذلك جاءت «أنجلينا» لتنسج علاقات الإنسان في تجلياته المنكسرة والمنتصرة، لتقوله في ضعفه وقوته، في استئناسه وتوحشه، في غرائزيته وفطريته، فالسارد مغترب عن وطنه، وبالتالي أصبح باحثا عن هوية جديدة تسمح له بالتوافق مع الوضع الجديد في لندن، المدينة المنفتحة على التعدد الثقافي والإثني، وبالتالي يكون النص في حد ذاته مقبلا من أصقاع النفس العميقة في البحث عن الهوية المتوافقة، أي كان يبتعد عن واقع ويحاول الاقتراب من واقع جديد يدمجه في فانتازيا ممكنة، والنص هو ذلك الجسر الذي مكنه من التغلب على واقع وإنتاج واقع آخر، فـ»نحن لا نصنع عالم الفانتازيا لأجل الهروب من الواقع، وإنما نصنعه لكي نستطيع البقاء»، كما ورد عن «ليندا باري» بلسان السارد. إن التحول عبر جسر الثقافات المختلفة والمدن الكوسموبوليتانية داخل بؤرة الغربة، يعتبر من التقاطعات الحساسة والخطيرة في إعادة تشكيل الهوية وتعريفها، إذ يتم ذلك داخل الأنماط الثقافية الماضية، وهو ما يرسم التحول عبر خطاطة صراعية رهيبة، تفسر المنحى الصادم الذي كتبت به الرواية في الكثير من منعطفاتها الحدثية.
الهوية/ انتصار الثابت:
تسترق هذه الرواية الرؤية خلسة إلى الماضي، إلى الهوية بما تحمله من «جينوم» إثنو ـ ثقافي يشتغل زمن الأزمات الوجودية ليعيد التوازن إلى الشخصية حال تمزقها الوجداني المفضي إلى الاغتراب.
يصور الراوي مشهدا حاسما في إمكانية التخلص من الماضي: «وهكذا أوصد الفتى باب الماضي وقذف مفتاحه في نهر التايمز»، هل يمكن بهذه السهولة التخلص من هوية أصيلة؟ لا يمكن مقاربة الهوية في مستوى الانفصال عنها.
يمكن أن نندمج في هويتنا لنكتشف إمكانات الإضافة الكونية إلى معطيات هوية لا يمكنها اكتشاف ذاتها إلا في مرآة آخرها، ولهذا تضع الرواية التجاوز الهوياتي في مستوى النسيان، «ولما أدرك أن المشاعر تقتل بحقنة النسيان واللامبالاة، أخذ من ذلك جرعة مفرطة»، فإن ننسى معناه إننا نريد أن نقتل شيئا حيا يعيش فينا ومعنا، ويمتلك إمكانية الظهور في غفلة منا، لاحتياجنا اللاشعوري له، فأزمة الهوية لا تنطلق من الرغبة في نسفها، تماما كما إنها لم تنشأ برغبة في نسجها، ولقوة هذه العلاقة كرستها الرواية عبر صورة الأم: «لكنه لم يكن يعلم أن شخصا آخر في هذا العالم كان أيضا يملك نسخة من هذا المفتاح.
إنها والدته..»، فالموت لا يمكن أن ينسينا أمهاتنا، ولذلك لا يمكن أن نتجاوز الذاكرة، إنها الأم والوطن.
إن الأمكنة مهما تعددت وتغيرت فهي لا تحمل في كيان العابر لها سوى بصمة المكان الميلاد، الذي يشكل الدمغة الوراثية الوجودية للكائن الإنساني العاطفي |
يتكرس هذا المعنى في الرواية عبر العفوية في طرح الموضوع الحياتي العابر في الكينونة، السفر، الذي يأتي عرضا في ذاته، لكنه جوهري في مدلولاته، فبعد أن تقترح «أنجلينا» وجهة سياحية، يبتهج شفيق للصور، لكن ما إن «وقع بصره على اسم المدينة حتى انقبض صدره، وابتسر وجهه، وانعقد لسانه..»، لأن الاختيار كان «فلسطين»، حاول الروائي بشتى أساليب السرد أن يقنع ذاته بأن الوضع الإنساني في متاهاته السياسية التحيزية والتعصبية هو الذي منعه من الوقوف عند الاختيار، محدثا ذلك الشعور المزلزل ساعة رأى اسم المدينة، ولكن رد فعل «أنجلينا التي فهمت المسألة الآن، ألقت الكتيب على الأرض بدون تفكير، وراحت تعتذر كما لو إنها ارتكبت أكبر ذنب في الدنيا»، كشف الوعي الحقيقي الذي لمسته في «المسألة»، إذ يحتفظ الوعي الإنساني بكارثية المأساة الفلسطينية، وهو ما حرك لا شعوريا وجدان «شفيق» القومي المتعلق بثوابت هويته العميقة.
المدينة أو سكن البدائل المحتملة:
يربط هشام شرابي الهجرة برفض الوضع القائم، وحينها لا تكون مغادرة الأوطان خيارا، بل ضرورة مدفوع إليها الأشخاص، فهو يتساءل في «الجمر والرماد»: «كيف غادرنا بلادنا..»، و»شفيق» انتقل إلى لندن: «المدينة العالمية التي تحتضن كل أجناس الدنيا وديانتها ولغاتها وثقافاتها»، هكذا هو المكان الذي لا نختاره بإرادتنا، بل نجبر على رؤيته مختلفا، ومفضلا لأن الوجدان العميق يبحث عن مغالطاتٍ تُوهِمه بصوابية التدبير، لأن هذه المدينة ذاتها سوف تصبح متعبة، «من ضغط العمل والحياة السريعة جدا..»، ولهذا سوف يجد في السفر مخرجا من روتين القرار في لندن، فالسفر إلى جزر الكناري لم يكن بذلك المعنى، بل «اللفظة الأنسب والأدق هي الهروب من الجزر البريطانية»، ما تسميه الرواية «هروبا» هو في حقيقة الأمر كذلك، لكن من ذات حاولت أن تستقيم في جغرافيا بديلة لم تستطع أن تتساوق معها، ولهذا كان وقوفه على زرقة السماء ودفء المناخ في جزر الكناري دافعا للقول: «أشعر كما لو أنني خرجت من نفق مظلم طويل إلى ضياء النهار!».
إن الأمكنة مهما تعددت وتغيرت فهي لا تحمل في كيان العابر لها سوى بصمة المكان الميلاد، الذي يشكل الدمغة الوراثية الوجودية للكائن الإنساني العاطفي، الرواية، تؤكد أننا كائنات عاطفية مكانية، فالضرورة الوجدانية التي دفعت أنجلينا إلى العودة أخيرا صوب النمسا وطنها الأصلي والتخلي عن «الحب» والوظيفة، يقدم البرهان الأكبر على أن مدن الهجرة مهما منحت للمغتربين من حياة ومراكز وفرص قد لا يتحصلون عليها في أوطانهم إلا أنها تبقى «سكن بدائل محتملة»، وليست مؤكدة، وحدها الأوطان تؤكد استمرارها في الذاكرة، وهو ما تصفه الرواية في رحلة النمسا، حيث «بدت منذ البداية فرصة للقاء الطبيعة الجميلة والطقس الممتع الذي استحضر في ذاكرته صورا من صيف الجزائر».
جنة الخطيئة وإثم الحب:
«مرحبا، ممكن قطعة بيتزا؟» هكذا تبدأ قصة الحب بين أنجلينا وشفيق، شراكة وجدانية تجمع مسارين بكل عنف اللقاء، ومأساة الفراق: «أنا آسفة! لا أتصور أنني أستطيع الزواج منك مع أنني أحبك»، فبعد أن تتأكد العلاقة وتسير طريقها نحو الإثمار، تبلغ تمامها بالتمزق، ولا يحمل ذلك سوى دلالة الانفصال عن الوطن، وتمزق العلاقات داخل عالم غير حائزٍ نضجه كي يمثل الإنسان في تعدده ومحبته وتعايشه، ولهذا طرحت الرواية العلاقة داخل إطار مشهدية جنسية متوحشة وفاضحة، إذ تستسلم «أنجلينا» «لسلطان إثارته وتلقائيته، والوحش الجنسي المفترس الساكن فيه»، ولعل الرواية بذلك تقدم تفسيرا لهذه المشهديات التفصيلية ولا تبررها، لأنها تعيق استمرار القراءة أحيانا، وتفصل الذائقة عن أدبية النص. كان «شفيق» في وحشيته الجنسية يعبر عن عمق اغترابه وتمزقه الوجودي، فيستعيض تخييليا تضاريس الجغرافيا المفقودة بالتضاريس الجسدية الحاضنة، لأن حضور الأم كحضور الوطن، كان نهاية لتلك المشهديات الجنسية، وبمغادرتها عاودت الرواية سيرتها فيها، وهو ما يؤكد أن جسد الأنثى معادل موضوعي لجغرافيا الوطن، لهذا تنتهي الرواية بانفصال تراجعي تستعيد فيه أنجلينا وطنها وينقطع فيه حبل الحب، فهل الحب يمثل إثما حتى يكون انفصال علاقته «جنة خطيئة»؟