عندما ضحكت حــصّــة

2019-11-21

عبد الباقي حج سليمان

 موجة من الأسى ابتلعتني بعد أن كلمتُ ابنتي زوزان، فأنا لم أترك لها ما يشير إلى أني سأستقدمها مع أمها وأخيها قريباً إلى حيث عملي وإقامتي، وكنت حينها غارقاً في همٍ لا يوصف، فعائلتي حتى الآن لم أنجح في الحصول على موافقة لاستقدامها، وألم في الكلى باتت نوباته تزيد مرة بعد مرة، والصف الطويل لطابور الجمعية زاد من إحساسي بالغضب والقهر، كنت أحمل بين يدي ثلاث عبوات عصير بلاستيكية ولأنه فاتني أن أُحضر معي عربة الجمعية، فقد ندمت كثيراً على شراء هذه العصائر التي أوصاني عليها زملائي في السكن، كان حملها قد أربكني، حتى ترددتُ أكثر من مرة في أن أتركها على أحد رفوف الجمعية، وأن أغادر دونها.

تناهى اٍليّ من خلفي صوت طفولي يزقزق:

- عمي.. هات عنك هذي العصائر..

كانت بالكاد تبلغ العشرين، وربما أقل من ذلك، كانت من جيل ابنتي زوزان التي كنت أحادثها قبل ساعتين، وطَلبُ هذه الفتاة بالنسبة لي كان فرصة لا تُفَوّت، ناولتها العبوات الثلاث على التوالي، وتولت هي وضعها في عربتها، وهمهمتُ لها ببعض كلمات الشكر، قالت وضحكتها العذبة تزاحم كلماتها:

- هكذا أفضل، أليس كذلك؟

كانت على حق، فقد كنتُ على وشك أن أتخلى عن العبوات فعلاً..

قلت لها ممتنّا:

- عفية.. عفية كْحيلة.

وأدرتُ لها ظهري كما في السابق.

قالت وهي لا تزال تضحك:

- أنا كحيلة..! ماذا تركتَ لعيون المها بين الرصافة والجسر..؟

ثم تابعَتْ بلهجة ساخرة:

- يبدو أنك لم تلاحظ نظارتي..؟ وأشارت إلى نظارة طبية في عروة ثوبها..

كنت قد استدرت نحوها مرة أخرى، يخامرني إحساس بأنني أفتقر إلى اللباقة كعادتي، وهو ما نبهتني إليه زوجتي مرات كثيرة.

كانت سمراءَ، ذات غمازتين آسرتين، تختزلان في وجهها فرحاً لا حدود له، وترتدي ثيابا سوداء، ويحيط بوجهها وشاحٌ أسودٌ كما لو كان إطاراً لمهرجانِ فرحٍ في هذا الوجه..

قلت لها مُصحِحاً:

- الكحيلة يا ابنتي.. هي اسم فرسٍ أصيلة ومعروفة.

قرقرت ضحكتها عالياً وهي تشدُّ من قامتها وتقول بلهجتها المحببة:

- فرس أصيلة.؟ كفو عمي.. كفو.

تابعتْ متسائلةً:

-    أنت أستاذ.. يا عمي؟

ضحكتُ وأنا أغالب ألماً في خاصرتي.. تجاهلتُ سؤالها، وسألتها بدوري:

- لم تقولي لي بعد.. ما هو اسمكِ؟

قالت كما لو كانت لا تستطيع الحديث من غير ضحكتها:

- اسمي.. اسمي (حصة) يا عمي.

سألتها:

- أنت تلميذة يا حصة؟

أجابت بما يشبه الاحتجاج وهي تشمخ برأسها وتمد ساعديها إلى جانبيها بكُمين طويلين وفضفاضين كجناحي طائر:

- كل هذا.. وتقول تلميذة يا عمي..!

قلت محاولاً أن أتذكر أمراً طرأ على بالي:

- حصة.. حصة!..تكتبين الشعر يا حصّة؟

بانت الدهشة في عينيها.. قالت بتردّد وهي تميل بكفها الصغيرة يميناً ويساراً:

- أحيانا... شعر نبطي.

ثم بصوت هامس، وشقاوة تتماهى مع سنها..

- ونُشرَت لي عدة قصائد قصيرة، ولم أقلها لغيرك..

قالت ذلك وهي تهز سُبابتها الصغيرة.

كنت قد أصبحت قريباً من صندوق الدفع، وأنتظر الرجل أمامي وهو يفرغ عربته فوق طاولة الصندوق.

سألتها بتأنيب مفتعل:

- حصّة؟ أأنتِ التي تقولين..

(من بعد حظنك.. جهنم ما تدفيني)؟

كنت أتناول عبواتَ العصير من عربة (حصة)، وأضعها أمام موظفة الصندوق، وأنا أسمع ضحكتها الطويلة تتردد بجنون طغى على كل أصوات الزبائن ولفت أنظارهم.. قالت وهي تغالب ضحكتها بصعوبة:

- يا حافظ.. يا حافظ..

جهنم..!  الله يسامحك.. جهنم..!

كنتُ قد دفعتُ ما ترتب عليّ، ووقفت أنتظر حصة لأشكرها وأغادر، جاءت وهي تدفع عربتها، وحالما وصلت عندي بادرتني بوجه مشرقٍ بالفرح:

- نعم عمي.. أين كنا..؟

أجبتها بتسرع ودونما تروٍ:

- كنا في.. جهنم..

انتظرتُ طويلا أن تتوقف ضحكتها، أو أن أتوقف أنا عن الضحك لأستأذن، دونما فائدة، كانت قد جلست على رصيف موقف السيارات، مخفيةً وجهها فوق ركبتيها غارقة في ضحكٍ عالٍ ومتواصل.

تابعت طريقي إلى حيث سيارتي، حانت مني التفاتة إلى الأعلى، كان القمر بدراً يوشك أن يكتمل، وكانت النجوم تغطي قبة السماء في احتفالية بهيجة، كما لو كانت تعدُّ لمهرجان ربيعي يزاحم أضواء المدينة الغارقة في النور، تأملتُ هذا المشهد الساحر للحظات، وتذكرت أنَّ آخر عهدي بالقمر والنجوم كان بعيداً، بعيداً جداً، جلستُ مبتسماً خلف المقود، أدرتُ مفتاح التشغيل، عدت بالسيارة إلى الخلف، ثم انطلقت.. مُستبشراً..

 (ألمانيا – بوخم)







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي