مدن الروح

2019-11-19

 شادية الاتاسي

اسمي كريستينا، أعيش في مدينة مورج السويسرية، على ضفاف بحيرة ليمان، وحيدة مع قطتي «عزيزة» الأردنية، التي حملتها معي من عمان، حين ذهبت لأدرس اللغة العربية.

استهوتني مدن الشرق دائما، ربما كان أسلافي تحدروا يوما من تلك الصحارى البعيدة، ربما كانت تلك المسحة من السمرة التي وسمت وجهي، نتيجة لتلك الجينات، التي ربما زرعتها الشمس الحارقة في خلاياي. دمشق كان لها النصيب الأكبر في قلبي، فرغم كل الهزائم والانكسارات التي تعصف بها اليوم بقيت عصية على الانكسار، ربما لأنها مدينة ذات روح وقلب وحضارة، وأن ضجيجها المؤلم ما هو إلا احتجاج صارخ، على كل المحاولات للعبث بروحها، وجعل عريها سافرا من ورقة التوت أمام العالم.

دمشق هي الزيارة الحلم، إلا أن الحرب هناك جعلتني أتجه إلى عمان المدينة الأقرب، وبقيت دمشق أمنية عصية.

وصلت إلى عمان منذ أسبوع، سأمضي هنا ثلاثة أشهر، ومنذ أن وطأت قدمايَ المدينة، كان لديّ إحساس خفي بأنني سأجد حسان في مكان ما، لم تكن هذه إلا رغبة مبطنة لأمنية عميقة، بلقاء لفحني الشوق إليه. لو كان هنا لذهبنا معاً وتعرفنا على المدينة، ولكان حدثني بصوته العميق الساخر، عن الحرب في بلاده، وعما في داخله من هزائم، وعن مدينته الصغيرة على ضفاف العاصي، وعن لعبة الموت هناك، ولكنت ابتسمت لحزن عينيه وأنا أسأله المزيد.

 قلت لحسان، أتمنى أن أراك. وكان هذا مستحيلاً. كان حسان في السجن! في أحد السجون الأمريكية، المتواجدة في الأطراف المترامية البعيدة، لُفقت له تهمة الإرهاب، وحكم عليه بالسجن عامين.

علمتُ هذا بعد أن اختفى حسان فجأة، بحثت عنه بدأب، ووجدته أخيرا عن طريق المنظمات الدولية، اتصلت بمحاميه، نصحني بعدم الاقتراب منه، هو خط أحمر الآن، الجميع ابتعد عنه. لم أرضخ.

قررت أن أبقى معه، وأمام دهشة المحامي من قوة إصراري، أشفق عليّ، قبل أن يساعدني وينقل إليّ أخباره، ثم سمحوا لنا بعد فترة، وبناء على طلب المحامي، بتبادل الرسائل الإلكترونية. وهكذا عاد الاتصال بيننا بعد انقطاع شهور طويلة.

وفِي حين كنت انتظر انتهاء محكومية حسان، قررت تعلم اللغة العربية. اتصلت برانية، صديقتي السورية، أعلمتها قراري، وطلبت منها أن تعلمني، وهكذا بدأنا. توطدت علاقتي بها بشكل مدهش، وأصبحت أرى في بيتها ملجأي ودفئي.

الرسائل الإلكترونية، كانت الشيء الوحيد الذي يصلني بحسان. وفيها كانت كلماته تعبر سماء المحيط الحر، أكاد أراه في ظلام سجنه المرمي في براري مجهولة، منكباً في زاوية باردة، ليكتب رسائل عشق رومانسية، لامرأة بعيدة، تنتظر بشغف على الطرف الآخر، كلمات حب مجنحة تتطاير منها الفراشات الملونة، عابقة برائحة الحب، كلمات كانت كافية لأن تأوي إليها هواجسي وتطمئن، في معركتي للدفاع عن رجلي الذي أحب. كتب لي: صغيرتي، وجودك من يهبني الحياة، لولاه لكنت انتهيت، أنتِ من يعطيني القوة، إبقي معي. كانت الدنيا تضيء أمامي.

كتبت له مرة: حبيبي أريد أن أراك، أشعر بوجودك. قال: اذهبي إلى هناك وستجدينني.

 أتمنى أن أذهب إلى دمشق، لكنها الحرب! إذن اذهبي إلى عمان، إنها الأقرب إليها. وهكذا كان.

أنا وحيدة هنا تماما، وعليّ أن أواجه بشجاعة كل الفخاخ الصغيرة الماكرة التي قد تنصبها لعبة الاختلاف، رغم أن صديقتي رانية السورية، حاولت أن تغطي الكثير من إلحاح أسئلتي، وتخفض من سقف صدمة الاختلاف هذه.

    أنا وحيدة هنا تماما، وعليّ أن أواجه بشجاعة كل الفخاخ الصغيرة الماكرة التي قد تنصبها لعبة الاختلاف، رغم أن صديقتي رانية السورية، حاولت أن تغطي الكثير من إلحاح أسئلتي، وتخفض من سقف صدمة الاختلاف هذه

كان الأمر عجيباً حقا، أن أكون أسيرة حب مع هذا الرجل الصعب، المنتمي إلى شرقه، ذلك المزيج الساحر من رقة الروح وجموح القلب، وشهوة الجسد، التي تشكل عناصر الحياة. أنا المرأة التي تنتمي إلى ما يسمى العالم الحضاري، والتي خاضت الكثير من التجارب والانكسارات.

مع حسان بدا الأمر مختلفا، انحسرت القتامة التي كانت تظلل حياتي، وجدنا أنفسنا متلبسين بذنوب الحب الجميلة، التي قلنا لها لا في البداية، والتي فتحت لنا بابا مشرعا على عالم يحفل بالحب والرغبة والحلم، كان شيئا أشبه بالنهر، لم أستطع أن أقف أمام جريانه، وأهدئ من طاقته، أعطيته إشارة البدء، وأجاد هو تلقيها.

عشت حلم اللقاء وانتظرته بشغف، وها أنا أبحث عنه هنا، كما طلب مني، أحاول التسلل لألمس روحه، بحثت ُ عن الأسرار التي تختبئ في مفردات لغته العربية الجميلة، أنصتُ إلى نداءات الفجر الحزينة، سمعت همس الليل في الحواري القديمة، ذهبت إلى الصحراء على الحدود مع السعودية، وفي ذلك السكون المطلق، وعتمة الليل، والفضاء الحر الواسع ، بحثت عن نفسي وعن حسان، حاولت أن أجد مكاننا معا، لكنني توقفت كالعادة، حسان صاحب قضية، ومع أنه حتى الآن لم يطلب مني الذهاب إليه، لكني أعرف تماما، ويعرف هو، أننا لن نفترق، وأنني سأذهب إليه حين يدعوني، لن أدع الزمن يتلف المزيد من قلبي، ومع إدراكي تماما، أنه المدَ الذي قد يبتلعه شاطئ مجهول.

لم تكن عمان مجرد مدينة، ذات أبنية وشوارع وأسواق، كانت مدينة تضج بالروح، وحين توجد الروح، توجد الآلام، الأورام والعورات التي تخشى أن تكشفها شمس عمان الساطعة. رائحة الخوف المنبعثة من ثقوب المعاطف البالية تتحدث بجلاء عن مقولة: بدنا نعيش التي أصبحت فلسفة خاصة لها جمهورها الواسع. انتابني إحساس أنها مدينة تنوس تحت ركام الماضي، وأن الناس هناك لا يجرأون على الحياة، بيوتهم الحجرية الجميلة تشبههم، شرفات واسعة تسرح فيها الشمس نهارا، وضوء القمر ليلا، لكن الناس يبقون في الداخل، يمارسون حياتهم، يروحون ويجيئون من خلف أستار قاتمة ثقيلة.

الحرب السورية المتشظية في الجوار، أرخت بظلالها العميقة على البلد، شاهدت الكثير من العائلات السورية، معظمهم نزحوا وفروا من الحرب، ويبدو أنه لم يكن مرحبا بهم في هذا البلد الفقير أصلا، كنت أراهم يأتون بالباصات الكبيرة، أكثرهم نساء، يحملنّ أطفالهن، وينتشرن في البلد، يبحثن عن مأوى، ويخترعن تبريرات ساذجة، للبحث عن بقايا طعام، يلتهمنه بعيدا عن العيون، في الزواريب الخلفية الضيقة، بدا لي هذا المشهد صارخا بالغرابة، عن بلد حضارته موغلة في التاريخ.

عدت إلى بيتي في مورج، ذهبت الى بيت صديقتي رانية، كنت أجد في دفء بيتها عائلتي التي افتقد، أجد دمشق بانتظاري، طاغيا على ما عداه، دمشق التي لم أعرفها، وأشعر بوجود حسان القوي هناك، أراه يجلس على المقعد الشاغر المقابل لي.

وفي لهجتها السورية المحببة عندما تريد أن تمتحن مدى تقدمي في اللغة العربية، وفي اللوحات والصور المركونة على الجدران، وفي تلك المنمنمات الصغيرة، المنثورة هنا وهناك.

أكلت التبولة على مائدتها، ذلك المزيج الساحر من الخضار الطازجة والألوان البهيجة، تدس فيه المرأة السورية، بذكاء شيئا من سحر أنوثتها، وأنواع «الكبة» الشهية، التي تتصدر المائدة الشامية، وتتبارى أيادي النساء السوريات في صنعها، كنت أجد في هذا الطعام فنا عريقا، مليئا ببهجة الألوان، والنكهات القوية، والخلطات العجيبة، التي كانت تسحرني، وتثير ذائقتي، وأقول لها: سنفتح بزنس بأكلاتك اللذيذة، وسيتدفق علينا الزبائن والطلبات، ونصبح أثرياء، ونسافر في العالم، ونعود يوما إلى هناك. إلى دمشق.

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي