"الخبز الحافي" لمحمد شكري .. تجربة في أدب الحدود

2019-11-16

فاليريو فيتوريني

ترجمة وتقديم: عبد المنعم الشنتوف

تقترح هذه الدراسة التي نقدم ترجمتها العربية قراءة تتسم بتميزها واختلافها لرواية "الخبز الحافي" للكاتب المغربي محمد شكري، الذي رحل عن عالمنا قبل ست عشرة سنة.

ويسعى الباحث الإيطالي فاليريو فيتوريني الذي يعمل أستاذا للأدب المقارن في جامعة نيس أنتيبوليس في فرنسا، والذي سبق أن كتب أطروحة مثيرة عن صورة العالم العربي في الأدب الإيطالي قراءة تبذل قصارى جهدها في الوصل بين «الخبز الحافي» وتراث أدب الشطار والعيارين العرب، وبعض تمثيلات أدب الهامش في الأدب الإيطالي تحديدا، ولا ننسى في السياق ذاته وصله بين هذه الرواية السير ذاتية وقيمة الاحتجاج ضد الظلم والقهر والزيف والنفاق.

النص

يعتبر المغرب جهة حدودية على مستويين؛ فهو ملتقى المشرق والمغرب والشمال والجنوب. وتتميز طنجة على وجه الخصوص التي كانت مسرحا لأحداث «الخبز الحافي» والتي عاش فيها الكاتب جزءا كبيرا من حياته، والواقعة بين المحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط وأوروبا وافريقيا، بكونها المركز النابض الأكثر تمثيلا لهذه الخاصية، بشكل يفوق المدن الكبرى الأخرى الواقعة في الداخل من قبيل فاس ومراكش، التي تحتفظ بأسباب وصلات وطيدة بالهوية العربية التقليدية.

كانت طنجة التي مثلت دوما ومنذ قرون المدينة الأكثر انفتاحا بفضل طابعها الدولي، الذي كرسته معاهدة باريس عام 1923 والتمثيليات والبعثات الدبلوماسية التي تعاقبت منذ عقود عدة، وجهة مختارة للعديد من التجار والمغامرين والدبلوماسيين والمثقفين والرسامين والكتاب، المنتمين لتيارات ومدارس مختلفة ومتمايزة، وقد أقام فيها أوجين دولاكروا وهنري ماتيس وفرنسيس بيكون وألكسندر دوما ومارك توين وبيير لوتي وهنري دو مونتيرلان وبول موران وألبرتو مورافيا و بيير باولو باسوليني وجوزيف برودسكي وصمويل بيكيت وجان جينيه ورولان بارت.

كانت المدينة في النهاية ملاذا لجأت إليه نخبة من ألمع كتاب جيل البيتز الأمريكي: بول بولز وزوجته، ترومان كابوت، غور فيدال ووليامز بوروز وجاك كيرواك. لم تكن علاقة هؤلاء الكتاب بطنجة خالية من تأثير سوء التفاهم. وعلى الرغم من أن رموز جيل البيتز كانوا في غالبيتهم أميل إلى اليسار فإنهم لم يتمكنوا من أن يضعوا موضع مساءلة طرائقهم في التفكير والرؤية إلى الآخر. وقد اعتبروا في هذا السياق أنه من غير المجدي معرفة هذا الآخر.

وكان أن احتفظوا بصورهم النمطية الغريبة. كتب بولز عن طنجة في روايته الشهيرة «شاي في الصحراء» التي حط فيها مباشرة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ثلاثة شبان ذوو ثراء ووسامة بحثا عن المشاعر والانفعالات القوية.

لم يكن لهؤلاء الثلاثة أي معرفة بالعادات والتقاليد المحلية، وبالحقائق الاجتماعية والسياسية للمغرب، ولَم يكونوا يحسون بأي رغبة في ذلك. لم يكن المغرب غير أرض احتضنت رحلة تيه وترحال استشرفت نهايتها بالموت والجنون.

    تبدأ مغامرة «الخبز الحافي» داخل هذا الفضاء الكوسموبوليتي. وكان الناشر الأمريكي بيتر أوين الذي سبق له أن أصدر العديد من الأعمال الأدبية المغربية، راغبا في العثور على أعمال جديدة

مثل حضور كتاب أمريكيين وفرنسيين في طنجة، ونشدد تخصيصا على بول بولز إسهاما في ميلاد أدب مغربي لم يكن ليفلح بسهولة في غياب وساطة هؤلاء الكتاب في العثور على وسيلة للانتشار في المغرب. وفِي الحقيقة فإن العديد من النصوص والأعمال التي كتبت في طنجة، والتي سعت إلى إعادة كتابة جغرافيا وميثولوجيا المدينة، لم يتح لها الانتشار إلا بفضل بول بولز.

كما أن الأعمال التي كتبها شخصيا أسهمت في تشكيل الصورة التي تعرف بها العالم الغربي إلى طنجة وهي الصورة التي سعى الكتاب المغاربة إلى خلخلتها وتفكيكها.

وسوف أقتصر في هذا السياق على عرض العلامة الفارقة للأدب المكتوب في طنجة، الذي يتميز بتداخل وتمازج الثقافات داخله. أعني تحديدا رواية «الخبز الحافي» لمحمد شكري، الذي رأى النور في منطقة الريف شمال المغرب عام 1935، والذي هاجر في سن السابعة صحبة أسرته التي كانت تعاني من العوز الشديد، هربا من المجاعة التي عصفت بالمنطقة.

وفِي سن الحادية عشرة غادر شكري منزل أسرته، وكان يعيش في الغالب في الشارع، ويزاول مهنا متعددة مثل مسح الأحذية وبيع الجرائد والخضار، ومصاحبة السواح، مع احتراف السرقة والتهريب والدعارة في بعض الأحيان.

ولم يتمكن من الالتحاق بمقاعد الدرس إلا حين بلوغه سن العشرين، والتغلب على آفة الأمية. وبعد سنوات من التحاقه بالمدرسة تمكن من الحصول على منصب في سلك التدريس، والانضمام إلى حلقة الأشخاص المقربين من الكاتب الأمريكي بول بولز الذي عرفه بجان جينيه وتينيسي ويليامز وصمويل بيكيت ووليامز بوروز.

تبدأ مغامرة «الخبز الحافي» داخل هذا الفضاء الكوسموبوليتي. وكان الناشر الأمريكي بيتر أوين الذي سبق له أن أصدر العديد من الأعمال الأدبية المغربية، راغبا في العثور على أعمال جديدة. ولأنه كان راغبا في إثبات وجوده وسط الجماعة التي تتحلق حول الكاتب الأمريكي، فقد أعلن بأنه انتهى من تحرير روايته، علما بأنه لم يكتب في الحقيقة ولو سطرا واحدا.

 حرر بيتر أوين عقدا مع محمد شكري الذي شرع بعدها في تحرير الرواية، وكان يأتي كل مساء لبول بولز ببعض الصفحات كي يقوما بترجمتها معا إلى اللغة الإنكليزية .

وحسب رواية محمد شكري نفسه، فإن النص جرى إملاؤه بالإسبانية والدارجة المغربية على بول بولز، الذي قام بعدها بنقله مباشرة إلى اللغة الإنكليزية.

وكان العنوان الإنجليزي للرواية for bread alone الذي كان مطابقا للمخطوطة العربية الأصلية مستلهما من مقولة المسيح: الإنسان لا يحيا بالخبز فقط.

أصبح عنوان الرواية في ما بعد «الخبز الحافي» وكان ذلك باقتراح من الطاهر بن جلون. تروي الرواية السير ذاتية حكاية طفولة ومراهقة بائستين وتفاصيل قهر وتسكع في غمرة من العنف والكحول والكيف والدعارة، في بلاد تقاوم من أجل الحصول على استقلالها.

وقد نشرت في طبعتها الإنكليزية عام 1973 بإشراف من بول بولز، وقد حظيت باستقبال لا بأس به في الأوساط الأنغلوسكسونية. غير أن الترجمة الفرنسية التي أنجزها الطاهر بن جلون هي التي ستضمن لها النجاح والانتشار الساحقين.

 وسوف يكون لزاما علينا أن ننتظر سنة 1982 كي نقرا الطبعة العربية التي ستصدر عن دار نشر في مدينة الدار البيضاء، بعد رفض العديد من الناشرين العرب إصدار الرواية، بسبب الموضوعات التي تطرقت لها وبسبب لغتها العارية. ولَم تكد تنصرم سنة ونصف السنة، حتى تمكنت من بيع عشرين ألف نسخة، وهو ما يعتبر نسبة توزيع جيدة مقارنة مع السوق المحلية. غير أن العمل انتقد بشراسة من لدن علماء الدين وبعض العارفين، الذين استثيروا ليس فقط بسبب إحالته الصريحة إلى الجنس والكحول والحشيش، وإنما بتأثير تدنيسه لقداسة اللغة العربية، التي تعتبر لغة القرآن وبسبب انتقاده أيضا للأوضاع السياسية والاجتماعية في المغرب.

كانت رواية «الخبز الخافي» عملا انتهاكيا يناهض المحظورات السائدة في الأدب العربي الحديث، وتتوسل بلغة حديثة مباشرة وأقرب إلى الدارجة التي تتحدثها الغالبية الساحقة من الشعب المغربي.

وقد دفع ذلك وزارة الداخلية المغربية إلى حظر نشر الرواية، ومصادرة النسخ المتداولة في السوق. ولم تتم إعادة الاعتبار للرواية إلا في سنة 2000 حيث جرى تقديمها في المعرض الدولي الثامن للنشر والكتاب في الدار البيضاء، حيث نفدت النسخ الألف التي جرى طبعها من لدن اتحاد كتاب المغرب، في ظرف أربع وعشرين ساعة.

تسببت الرواية في صدامات عدة، ذهب ل. موزوني إلى اعتبارها عملا روائيا مكتوبا باللغة الفرنسية. ونرى من جهتنا أن هذا الرأي مجانب للصواب، بسبب ارتباط «الخبز الحافي» بتراث الأدب الشطاري العربي، ونمثل لذلك بـ«ألف ليلة وليلة» و«حكاية علي الزيبق» ومقامات الحريري والهمذاني، التي يذهب بعض الباحثين إلى اعتبارها أصلا للرواية الشطارية الإسبانية، التي تعتبر بدورها أساس الرواية الأوربية الحديثة.

تعتبر المقامات وهي نثر موزون يمتزج داخله وفي إطار سردي الهزل بالجد والحقيقة بالاستيهام، نوعًا أدبيًا يمتد إلى القرون الوسطى، وتمت استعادته في العديد من الروايات الأوروبية. وهذا النوع الذي كانت له أيضا غايات بيداغوجية، والذي استفادت منه أجيال من الكتاب العرب قد اختفى من المشهد الأدبي العربي في بداية القرن العشرين.

    لقد أنكر محمد شكري في أحد حواراته اطلاعه على نصوص أدب الشطار والعيارين العرب، وإن لم ينف الصلات التي احتفظ بها مع أدب الشطار والهامش في صيغته الأكثر شمولا واتساعًا، التي تناهض الأيديولوجيا المهيمنة وأساليبها في الطمس والتعمية

ووفق هذا المنحى يكون في مقدورنا القبض على سمات قرابة بين «الخبز الحافي» وأعمال روائية أخرى في القرن العشرين من قبيل «سفر إلى تخوم الليل» لفرديناند سيلين 1932 «الطبل» لغونتر غراس1959، غير أن أسباب القرابة مع أدب جيل البيتز الأمريكي تبقى اقل إقناعًا بحكم الحقيقة التي مؤداها، أن الاندحار أو التردي الاجتماعي واللغوي عند جيل البيتز إرادي، فيما لا يتعلق الأمر في حالة محمد شكري باندحار، وإنما بقهر أو حرمان هما محصلة ظروف اجتماعية وسياسية وثقافية ولغوية موضوعية.

 أنكر محمد شكري في أحد حواراته اطلاعه على نصوص أدب الشطار والعيارين العرب، وإن لم ينف الصلات التي احتفظ بها مع أدب الشطار والهامش في صيغته الأكثر شمولا واتساعًا، التي تناهض الأيديولوجيا المهيمنة وأساليبها في الطمس والتعمية.

وبتأثير هذه الأسباب ذاتها تبدو لي قرابة «الخبز الحافي» بروايتي بي بازوليني «فتيان الحياة» 1955 و«حياة عنيفة» 1959 غير ملائمة، فيما تبدو صلة القرابة بسيرة ذاتية إيطالية أخرى أشد إقناعًا، ويتعلق الأمر بالعمل الذي كتبه كافينو ليدا «الأب الطاغية» 1975 والذي يروي فيه طفولة ومراهقة البطل داخل أسرة فقيرة جدًا من رعاة الغنم في جزيرة سردينيا الإيطالية، وبفضل الخدمة العسكرية التي مكنته من الحصول على شهادة الإعدادية تمكن البطل من قهر الأمية التي فرضها عليه والده.

يكفي كي نحيط علمًا بالأهمية التي يكتسيها عمل محمد شكري، أن نقرأ بعض الصفحات: «إذا كان من تمنيت له أن يموت قبل الأوان فهو أبي، أكره أيضًا الناس الذين يشبهون أبي. في الخيال لا أذكر كم مرة قتلته. لم يبق لي إلا أن أقتله في الواقع».

ليس من الضروري أن تكون على معرفة عميقة بالثقافة العربية كي تحيط علمًا بقوة وأهمية هذه الفقرة. تتسم صورة الأب في الثقافة العربية التقليدية بأهميتها الشديدة، كما أن سلطته شبه المطلقة داخل الأسرة هي من القوة بحيث يمكن الخلط عند الطفل محمد شكري بينه وبين الله نفسه: أبي أقرب منا إلى الإله والأنبياء والقديسين.

نعرف منذ سيغموند فرويد أن كل أطفال العالم شعروا بالكراهية في إحدى مراحل حياتهم حيال آبائهم وتمنوا قتلهم. لكن أن يتمكن شاب مغربي أمي من أن يحقق الوعي بذلك، وأن يعترف بذلك لنفسه أولا قبل أن تواتيه الجرأة على كتابته باللغة العربية المقدسة، ونشره في النهاية فهذا يعتبر فعلًا مذهلًا ورائعًا. يتعلق الأمر في هذا السياق بحاجة روحية لم يتم الاعتراف بها إلى حدود الآن في الأدب العربي، التي تنبعث في النصوص التي كتبها محمد شكري، خصوصا الفواصل الجريئة.

أعني الرغبة في الافصاح ولو بواسطة التدنيس والمس بالمقدسات عن الذات كما هي، بدون أي حجب أو طمس لها. إنها رغبة في الاعتراف بالحضور وعودة إلى الهوية، بوصفها تكرارا وإعادة خلق أو إبداع للذات داخل العالم، كما ذهب إلى ذلك فرانز فانون: في هذا العالم حيث أسير أعيد خلق نفسي بطريقة لانهائية.

حظيت «الخبز الحافي» بترجمتين إلى الإنكليزية والفرنسية، وكلتاهما تتسم بمستوى أدبي رفيع، وإن كانتا في الآن نفسه مختلفتين بشكل لا يقبل الجدل عن الأصل العربي، وموجهتين بغايات متمايزة. وقد أتاحتا لهذا العمل فرصة المقروئية في العالمين الأنكلوسكسوني والفرنكفوني.

بما يستدعيه ذلك من إثارة بعض الشطط في الرأي، وأشكال من سوء التفاهم. وتبقى «الخبز الحافي» بدون شك عملًا شديد الأهمية في بانوراما الأدب المغربي والعربي، بحكم انتشارها الواسع وإزعاجها للطبقات المهيمنة في المغرب والعالم العربي. يسبغ هذا النص القيمة الأدبية على عالم سفلي ومغيب، يمثل رغم ذلك واقع الغالبية الساحقة للشعوب العربية.

ويشكل انبعاث هذا العالم السفلي المهمش داخل الأدب وسيلة لكسر التحالف بين الطبقات المهيمنة داخل العالم العربي، والراغبة في طمس وحجب البؤس والتدهور اللذين تعانيان منه الغالبية الساحقة من شعوبهم والجمهور الأوروبي، وضمنهم المثقفون الراغبون في استهلاك الصور ذات الألوان الزاهية والفلكلورية.

ونحن نتأمل عن كثب الإشارات الدالة على «الربيع العربي» بما يستلزمه ذلك من تعطش إلى الحرية والديمقراطية وعدم التسامح مع الطبقات الحاكمة المنافقة والمرتشية والانفتاح بدون أحكام مسبقة على الثقافة الغربية، مع حضور الوعي بضرورة التجذر في الثقافة العربية والقطيعة مع الأحكام المسبقة ذات الطابع الديني، فقد كان في مقدورنا أن نرصد هذه العلامات أو البشائر قبل عقود خلت في رواية محمد شكري.

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي