هل عرف النقدُ العربي القديمُ الأجناس الأدبية؟

2019-11-07

جاسم حسين الخالدي

شغلت قضيةُ الأجناس الأدبية، تفكير النقاد المحدثين، غربيين وعربًا، إذ إنها تؤلفُ النصف الآخر، لنظرية الأدب، ولذلك وجد الباحثون عن الحداثة والتجديد ضالتهم في توجيه سهام نقدهم إلى النقد العربي لعدم معالجته هذه القضية في نتاج نقاده، بحسب ظنهم، ولذلك راح فريق آخر يبحثُ عن جذور هذه النظرية في النقد القديم بتتبعٍ كبيرٍ، وصبرٍ أكبر، لكي يثبت أن النقاد القدماء لم يفتهم أمر البحث عن الأجناس الأدبية في كتاباتهم النقدية، وغير النقدية التي عالجت بعض الإعجاز القرآني، ومن هؤلاء الباحثين الجادين المتخصصين بالنقد القديم وقضاياه النقدية فاضل عبود التميمي، في كتابه «جذور نظرية الأجناس الأدبية في النقد العربي القديم».

التجنيس الأدبي

الإشكالية التي انطلق منها الناقدُ تتمثلُ بأن فكرة التجنيس ليست جديدة على الفكر النقدي القديم العربي وغيره، لأنها ـ كما يذهب الناقد- أنها مرتبطة بالأدب «هي ببساطة فكرة (نقدية) قامت على تأمل شكل الأدب». ولكنه يستدرك، ليقول، بأن هذه الفكرة «تتطور تاريخيًا في صورة إنجازات فرديةٍ دائمة الجدة من دون أن تبلغ الغاية أبدًا».

ثم راح يغوص في أعماق التاريخ؛ ليقف عند التاريخ النقدي القديم، مبتدئًا، بأرسطو في كتابه «فن الشعر» الذي وضع اللبنات الأولى لفكرة الأجناس الأدبية، حين قسّم الأدب إلى نثرٍ وشعرٍ، والشعرُ، بحسب أرسطو «إما مركبًا من أنواع أو نوعًا واحدًا».

عاداً ذلك، إدراكًا مبكرًا لقضية تجنيس الأدب؛ ولذلك، فهو لا يقفُ طويلًا عند الأصوات التي تقول بضرورة إلغاء فكرة التجنيس، أو الأنواع، كما ذهب: كروتشة، وبلانشو، ورولان بارت، أو الأصوات التي أحالت نظرية الأنواع الأدبية، لتحط بها في فضاءات نظرية الخطاب، أو علم القص، ولذك فهو لا يتوانى من التأكيد على ضرورة الحفاظ على نظرية الأنواع، وتنمية مقولاتها.

النقد المعاصر

وفي سياق التأكيد على تلك الفرضية، يذهبُ الناقدُ إلى الجهود النقدية الحديثة التي أكدت وجود الجنس في الأدب بشكلٍ عام، والأدب العربي بشكلٍ خاص، وفرّقت بينه وبين النوع، أو عدتهما أمرًا واحدًا، من مثل علي جواد الطاهر، وفاضل ثامر، وسعيد علوش، وغيرهم. وظاهر، أن الناقد يجتهدُ متوسعاً في الحديث عن الأجناس الأدبية، لتأكيد الفرضية التي بُني الكتابُ عليها، ولاسيما التمهيد منهُ، ومفادها السؤالُ الآتي: هل عرف النقدُ العربي القديمُ الأجناس الأدبية؟ وللإجابة على هذا السؤال، أو الفرضية، يذهبُ الناقدُ إلى الجهود النقدية التي سبقته، ويفتتحُ الكلام بالناقد المصري محمد غنيمي هلال، الذي عدّ قدامة بن جعفر الرائد في دراسة الأجناس الأدبية، عبْر حديثه عن الأغراض الشعرية، من جهة، ومن ثم نفيه أن يكون الأدبُ العربي قد عرف ظاهرة الجنس، وهو ما دعا التميمي إلى القول بأن غنيمي قد «وقع في فخ الاضطراب المصطلحي حين عدّ الأغراض الشعرية أجناسًا أدبية».

ثم يقف عند عبد السلام المسدي، الذي رأى مقولة الأجناس الأدبية دخيلةً على الأدب العربي، و»أن النقاد العرب المعاصرين يسقطون على الأدب العربي أنماطًا من التصنيف غريبة على روح التراث الحضاري حين يتحدثون عن الأجناس الأدبية». (النقد والحداثة).

ويواصل متابعة الجهد النقدي العربي مرورًا بالناقد محمد ماكري، وفرج بن رمضان، وعبد العزيز شبيل، وأحمد محمد ويس، وعبد الله إبراهيم، ومصطفى البشير طه، ومصطفى الغرفي؛ ليصل إلى نتيجةٍ مفادها «إن غياب فكرة الأجناس أو حضورها في النقد العربي القديم قضية لها علاقة بالوعي الأدبي والاجتماعي … وهكذا يمكنُ أن نجد أن فكرة الإعجاز القرآني مثلًا، وهي مسألة ذاتُ إطارٍ فكري (أيديولوجي) أسهمتْ في وجود بواكير التجنيس في النقد القديم».

النقد وقضية التجنيس

ومن هذا، يصلُ إلى الأسباب التي حالت دون أن يكون للنقد العربي نظرية محددة في بنية الأجناس، ويجملها بالآتي:

طبيعة النقد العربي نفسه، الذي دار حول موضوعات كثيرة من بينها السرقات الشعرية، والطبع، والصنعة، والذوق، والصدق، وغيرها. تعقد بنية الأجناس، واعتماد بنيتها النقدية على نظر يوازنُ بين الأجناس نفسها.

غياب التكاملية النقدية، بمعنى أن النقد لم يعرف التراكمية، فما ينتهي إليه ناقد ما لا يكمله آخر، فالعمل الفردي هو دأب النقد العربي قديمًا وحديثًا، وهو أمر يمكن أن نجده في كل الثقافة العربية القديمة والحديثة.

المترجم السرياني، الذي كان سببًا في عدم اطلاع الناقد العربي على التقسيم الصحيح الذي وضعه أرسطو، وأعني تقسيم الأدب على ثلاثة أنواع: التراجيديا، والكوميديا، والملحمة.

  يذهب التميمي إلى المتون النقدية القديمة، ليبحث في قضية لم يتعدها الجهدُ النقدي القديمُ وهي أسبقية الشعر، على النثر، مثلما ورد الحديث عند: عمرو بن العلاء، والجاحظ، والباقلاني، وأبي حيان التوحيدي، وعبد الكريم النهشلي

 الوعي النقدي القديم

 لينتهي بعد ذلك إلى خاتمةٍ مهمةٍ تمثلُ تصورهُ النقدي بشأن قضية التجنيس، مفادها: على الرغم من كل ما سبق عرضه، فإن الخطاب البلاغي النقدي العربي، احتوى مقولاتٍ كثيرةً، يمكنُ أن نجدها متفرقةً عند كثيرٍ من النقاد، أو مجتمعة – على قلتها- في كتابٍ بعينه كلها، تحيل على جذر يتحرى مسائل التجنيس الأدبي التي تلحقُ الشعر والنثر يوم ذاك».

أما الجانبُ التطبيقي، فقد تبنته الفصولُ اللاحقةُ التي كانت موزعةً على الجهود العربية القديمة التي مرت على فكرة الأجناس الأدبية، ففي الفصل الأول الذي حدد الناقدُ هدفهُ، بتدقيق النظر في المقولات النقدية التي قال بها قسم من النقاد العرب القدماء ممن عاش تجربة الكتابة النقدية ما بين القرن الثالث والقرن السادس الهجريين، بشأن فكرة الأجناس الأدبية، مبتدئًا بالجاحظ، الذي ذهب في لفتةٍ نقديةٍ مبكرة، تشعرُ بوجود فكرة الجنس في تفكيره، حين رفض قول من عد قوله تعالى شعرًا «تبت يدا أبي لهب»، (المسد/1) لأن والكلام للجاحظ «كيف يكون هذا شعرًا، وصاحبه لم يقصد إلى الشعر». (البيان والتبين).

ويستمر الناقدُ بالتوقف عند جهود الرماني، والخطابي، وأبي هلال العسكري، والباقلاني، ويبدو أن الجامع بينهم جميعًا، هو معاينة النص القرآني ومقارنته بضروب الكلام المعروفة من شعرٍ، ونثر، ورسائل، وغيرها.

ليقرر بعد ذلك، أن الجاحظ من أوائل من اقترح، لفظ (الجنس) في مقولته الشهيرة: «إنما الجنس صناعة». (الحيوان:3).

ثم توالى الجهدُ النقدي العربي في ذكر مصطلح الجنس، متمثلًا بـ (ابن طباطبا، الخطابي، والباقلاني)، على الرغم من عدم دقة المصطلح تمامًا، إذ اختلط بمصطلحٍ آخر هو (النوع)، ذلك أن الأول أعمُ وأشملُ من الثاني، كما تذكر معاجم اللغة، وهو ما اتفق مع ما ذهب إليه التميمي، من أن «الجنس أعلى درجة من النوع، أي أن النوع نمط تابع للجنس».

الفكرة دون النظرية

يذهب التميمي إلى المتون النقدية القديمة، ليبحث في قضية لم يتعدها الجهدُ النقدي القديمُ وهي أسبقية الشعر، على النثر، مثلما ورد الحديث عند: عمرو بن العلاء، والجاحظ، والباقلاني، وأبي حيان التوحيدي، وعبد الكريم النهشلي. ليصل إلى البرهنة على فرضيته التي تذهبُ إلى وجود إشاراتٍ، هنا وهناك، تؤكدُ فكرة الأجناس في النقد العربي القديم، وإن لم تصلْ إلى درجةٍ النظريةٍ، لكنها موجودة، وكان يمكنُ أن تتطور لو تلقفها النقادُ العربُ الواحدُ بعد الآخر، لكن غياب التراكمية التي تحدث عنها التميمي فوّت الفرصة على التراث النقدي القديم فرصة ولوج منطقة الأجناس الأدبية، وجعله منكفئًا حول قضايا بعينها لم يتجاوزها.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي