الهمّ

2019-11-06

محمد خلفوف*

بيبلوغرافيا مختصرة:

أنا الهمّ، يمكنكم منحي من الأسماء ما تشاؤون، لكن اسمي، في هذه القصة، هو الهمّ. عندما أغادر المنزل كل يوم، أتمنى لو أن سيارة تدهسني، أو يسقط عليّ شيء من فوق: نافذة، شرفة، طائرة، قنبلة، مركبة فضائية... المهم أن أموت، لأنني بكل بساطة همّ: أرى ذلك في عيون أبي، ونحن نلوك وجباتنا.

تقول أمي:

- الزعلوك مرّ...

أقول:

- حياتنا أمرّ منه...

وبعد عام، عندما سيحال أبي على التقاعد، سأتحول إلى همّ كبير، كبير جداً، كفيل أو ديناصور... لأنني صرت راشداً، وسأنتظر كثيراً لأجد عملاً، ولأتزوج، و... حينها ستصبح الحياة همّاً بكل تجلياتها.

أنا همّ يقرأ الكتب، ويكتب قصصاً يحاول نشرها...

عيون أبي تصيح: أنت همّ...

مجهول يصفعني ويصيح: أنت همّ...

القلم في يدي يصيح: أنت همّ...

الورقة أمامي تصيح: أنت همّ...

وااااااالهمّ

باختصار، ولكي لا أطيل، أنا همّ.

الهمّ في المكتبة:

سار تحت مظلته السوداء، يمناه في جيب معطفه. كان يطأ برجليه المثقلتين الأرض المبللة. لقد أمطرت طوال الليل، وبشدة.

توقف بمحاذاة الرصيف، وأخد يتطلع- كآخرين- إلى الأجساد المندفعة. لقد كان القرار مفاجئاً وقاسيا. لكنه لم يتوقع خروجهم هكذا. كانت الأجساد قادمة من جهة اليمين. من تلك الأحياء الضيقة. عبر الرصيف. يمناه في معطفه. اندفع معهم. وكانوا يهتفون. بعضهم يسير حافيا وقد ظهرت أقدامهم الصفراء النحيلة. آخرون كانوا يحملون الرنج الأخضر (خاف أن تأتيه رنجة في الرأس)... هتافاتهم العفوية حركت داخله شيئا راكدا. بداخله كاد شيء أن يتحرك... كاد شيء أن يهتف... كان شيء يريد الهتاف. لكنه- الشيء- ظل جامدا. اندفعت الأجساد من حوله، بنفس الحماس، وظل هو ثابتا، يراقبهم من خلال زجاج نظارته. يمناه في معطفه تلعب بالمفتاح...

اتخذ طاولة مناسبة داخل المكتبة. النافذة قبالته مفتوحة: لوحة حية، من خلال الإطار، للجبل والسماء الرمادية. حينها تنفس هواء باردا.

أخرج رأسه عندما أخرج الموظفون رؤوسهم من النافذة: أجساد جديدة، مندفعة نحو القلعة... في كل شارع كتلة، وفي كل كتلة اندفاع، وفي كل اندفاع همّ.

عاد إلى الطاولة. وأخد يبحث عن كلمات يدوّنها. هذا عامه الأخير في الكلية. إن هذا المؤلف، الذي هو موضوع بحثه، عاش مهموما، كتاباته تدل على همّه، شخصياته مهمومة، كتاباته بها همّ كبير، حمل لمدة أربعين عاما همّ طبقة مهمومة، لقد عاش الهمّ وكتب عنه... الهمّ في الكتب والهمّ في الحياة!! ما هذا الهمّ يا ربّي؟!

عندما اندفع خارج المكتبة، كان المطر قد كفّ. سار عبر الشارع... ثم انبثقت كتلة أخرى. كانت تهتف وتصيح، كالكتلتين السابقتين، والكتل في التلفاز المنحاز. توقف، كما توقف آخرون: أمام المحلات والمقاهي. نادل توقف والصينية جامدة في يده... وغداً في الجامعة ستكون مظاهرة، وستقاطع الدروس، وسيخرجون من المدرجات ككتلة، سننزل الدرج، ونسير في الساحة، ثم تأخذ بعض الكتل في الانسحاب... ثم فكرت بأنه لا داعي للتوقف عند كل كتلة، فلكل كتلة همّها...

موعد مجهض:

جلست طويلاً في الشرفة، انتظرت طوال فترة ما بعد الظهيرة. لكنه لم يأت. تخيلته يقف على الرصيف المقابل.. يرفع يده ملوّحاً.. أرتدي سترتي وأنزل. وداخل ذلك المقهى الصغير وسط تلك الأحياء المتشابكة، نجلس - وسط رائحة الكيف والحشيش، ونطلب الشاي بالنعناع، ومن خلال الباب الطويل الضيق: أراقب سيل الهموم وهي تمر من أمامي، في حركات متكررة، أراقب الأرداف وأحلم.. متناسيا همّي... لكنه لم يأت.

الهمّ وسط الهموم:

كنت وحيداً وسط الهموم التي تشاركني الشارع. وكانت بقعة الظلام متكونة في السماء. جانيس جوبلن تفرغ حزنها الجميل في أذني.

لو أن لي حبيبة لأمسكت يدها في هذا الزحام، وهمست في أذنها:

اليوم عيد ميلادي... في مثل هذا اليوم بصقتني أمي إلى العالم في مستشفى بمدينة خريبكة... في مثل هذا اليوم خرجت إلى الدنيا همّا صغيراً.. سيكبر هذا الهمّ ويكبر ليصير همّا في الثالثة والعشرين.. بنظارة وأنف أفطس... همّ يخاف مصيره المجهول.

("أخاف. فأفكر في الخوف. وإذ فكرت بالخوف، أخاف"، الخائفون، ديمة ونوس)

لكم تمنيت أن تكون لي حبيبة ذات وجه أبيض وشعر أسود كالليل... ألجأ إليها في زمن الخيبات، لكنني كنت وحيداً، على امتداد هذه الحياة القاسية والصعبة، ووحيداً أيضا وسط هذه الهموم التي تسير، وتشاركني الشارع والحياة، وتمارس همّها اليومي.

الهمّ والشبح:

انبثق الشبح فجأة من خلال الكوة المظلمة. سرى الرعب في جسدي وجريت كالمجنون أصيح: ((الشبح... شدوه... الكنيسة... التورنوفيس... شدوه... الشبح...)) كنت أجري، بكل قوة، وأصيح، بين البشر/الهموم. متخيلاً الشبح يجري ورائي، مثل عملاق آلي، وفي يده التورنوفيس، يحاول غرزه في جسدي الهزيل.

جريت وجريت... وتوقفت أمام باب العمارة منخور القوى.

الهمّ أمام المرآة:

عندما دخل البيت كان صامتا ومظلما. نظر إلى ساعته فوجد عقاربها ميتة على معصمه. قبل أخته النائمة، زفرت، حتى أنت تنفرين مني أيتها الصغيرة... غسل وجهه، فخداه يؤلمانه، غدا سيصاب بقطيع اللحم، عندما رفع رأسه، رأى وجهه في المرآة...

انتابته رعشة للحظات... وانهار باكيا...

أحس أنه ضائع في هذا العالم، إنه همّ صغير/كبير، ككل الهموم الأخرى.

أبوه همّ.. أمه همّ.. هو همّهما.. الله همّنا.. الكتابة همّي.. الكتابة همّ آخرين من قبلي ومن بعدي.. يقول كتاب الصرافة: اهتم الرجل: صار همّا.. لكم همّكم ولي همّ.. همّ وراء همّ تتكون الهموم.. ليس في الهمّ إلا الذي يفهم.. مهمومة يا خييي مهمومة.. وطننا واحد همّنا واحد...

عندما يفكر في المستقبل.. يرعبه الهمّ المنتظر...

..........................

نام الهمّ، وأثناء نومه حصل عطب فمات. وظلت جثته تتحلل لمدة طويلة، ثم تحوّلت إلى رماد. تحوّل إلى بيضة: خرج منها طائر عملاق بمنقار حاد.. لينخر رأس الديك.

  • كاتب من المغرب






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي