الفتاة التي صارت قمرا

2019-09-13

نائل بلعاوي*

هو البيت الوحيد الذي لا تخطئه عين قاصده، عتيق، باروكي التصميم، يجاور النهر.. ويكاد يسكنه. وهو ما جئت لأبحث عنه في المدينة، وبلا عناء وجدته، فصورته الفوتوغرافية التي أحمل تدل بلا مواربة عليه.

«إن جئت يوما، فتعال إلى هذا البيت»، بهذه الكلمات اليتيمة وصلتني الصورة البيضاء والسوداء قبل عام ونصف العام، فذهبت، وقرعت بعد ظهيرة مشمسة بابه، وانتظرت، إلى حين أطلت سيدة من شباك طابقه الثاني..
* من أنت ؟
ــ جئت للسؤال عن ..
وقبل أن أكمل، ردت السيدة بترحاب غير منتظر: تفضل.
ثمانينية كما بدت، بملامح رقيقة تدل على جمال لم يغادر جنانه السابقه تماما، ووقار شيخوخة هادئة. ببطء وود قادتني السيدة إلى صالة تتوسط البيت، وأجلستني فوق أريكة كبيرة محاطة بالكثير من الأثاث الأنيق والكتب القديمة، وراحت تعرض عليّ ما يمكن لها أن تقدمه لي:
* هل ترغب بكأس من الماء البارد؟ شاي؟ قهوة؟.. أو، ما رأيك بنيذ جيد، لديّ زجاجة حمراء منه وهذا وقتها.. دعك من هراء الألوان، النبيذ الأبيض للصيف والأحمر للشتاء، النبيذ الجيد هو النبيذ الجيد وهو يصلح في جميع الفصول والأوقات.. فوافقت، وبدأنا في اليوم الصيفي القائظ ذاك، باحتساء نبيذها الأحمر.
وحيدة هي، كل شيء في المكان يشير إلى وحدة طالت، أثاث الصالة غير المستهلك بكثرة، كما بدا، الكتب المتراصة بعناية، زجاجة النبيذ المحفوظة مذ لا أعرف من السنوات، والرغبة الجلية للسيدة بالكلام.. هي تحكي، وأنا أستمع:
ـ مات زوجي قبل عشرين عاما في رحلة علمية إلى قلب افريقيا.. كان يود اكتشاف نوع نادر من التماسيح التي تكاثرت هناك ولم تغادر مستنقعاتها يوما، فمات ولم يكتشف.
* كيف مات؟
ــ لم يقع بين فكي تمساح جائع أو غاضب. لم يمت بلدغة أفعى تدافع عن صغارها.. ولم يكن مريضا.. مات وهو يتأمل القمر، ألم تسمع بأشخاص يموتون وهم يتأملون القمر؟
قرأت في الأساطير الافريقية عن فتاة تصير هي القمر.
* كيف؟
ـــ طردتها الأرض من رحابها فصارت القمر.
ــ هذا يعني أن القمر الذي نراه الآن هو وجه الفتاة التي نبذتها الأرض مرة..
ـــ لو صدقنا الأساطير
أصدقها، أجابت السيدة، وأظن أن الفتاة التي صارت قمرا هي العشيقة السرية لزوجي.. كان يتأملها ويحسب المسافة بين السماء والأرض، فمات حزنا وقهرا.
ــ مات عاشقا إذن..
* مات حالما، أنا أيضا أريد أن أموت في حلم، هنا في هذا البيت قرب النهر.
لم تسأل السيدة عن الأسباب التي أرغمت الأرض على طرد الفتاة من رحابها، ولم أخبرها بها، لأنها مجهولة لديّ ولا أعرف عنها شيئا، ولم تمنحني هي فرصة للسؤال عن فرادة الموت في الحلم، وكيف يمكن أن يكون، ولماذا ترغب به دون سواه؟
كانت راغبة في الكلام، وكنت أنتظر لحظة مناسبة للسؤال عما جئت للسؤال عنه.
* هل تعرف شيئا عن عبقرية الحب؟
ــ هل هو عبقري؟ أجبتها باهتمام.
ــ بالطبع، وعبقريته تكمن في اعتراف المحبين بالخسارة، حتى وهم يرفضونها أو يتحايلون عليها.. أن تحب يا بني يعني أن تخسر، إن اعترفت أو لم تعترف.. أنا أيضا خاسرة.
* وأين تكمن العبقرية هنا؟
ــ في الحب، في ذهاب المحب إليه وهو يعرف سلفا بأنه سوف يخسر، أليس الحب هو الوحيد القادر على أن يأخذك إليه وأنت تعرف بأن الخسارة تنتظر، أو أن بابها مفتوح على الأقل، لكنك تذهب..
ــ ربما نذهب إليه ونحن لا ننتظر الخسارة، ألا تذهب الفراشات إلى الضوء وهي لا تعرف بأنها ستحترق..
ــ هي أكثر ذكاء منا نحن البشر، الفراشات تذهب إلى الضوء وتحترق لمرة واحدة، ونحن نذهب إلى الحب مرات ونحترق، نخسر، ولكننا نعود ونبحث في كل مرة عن النار، وهذه هي عبقرية الحب، سحره الجاذب.. أو القاتل أحيانا.
هل بدأت بالثرثرة، ربما ثملت.. انتظر لديّ زجاجة نبيذ أخرى سأحضرها الآن .
بخفة وحيوية غادرت السيدة، وبسرعة عادت تحمل زجاجة نبيذ جديدة، بيضاء هذه المرة!
* اعتذر وجدت هذه البيضاء، لا يهم دعنا نشرب، أين كنا؟
ـــ كنا نحكي عن الحب والضوء والفراشات والخسارة
ــ أه، دعك من كل هذا، سوف تكتشف بنفسك حقيقة ما أخبرتك به هذه العجوز الثملة. هل أعجبتك بازل، هذه أجمل مدن البلاد ولا تسألني لماذا، ربما لأنني لم أعرف غيرها.. لدينا كاتدرائية كبيرة لا أتردد عليها، ولكنني أعرف الكثير عن المغامرات الغرامية السرية لواحد من القساوسة فيها..
ــ سرية! قاطعتها لأول مرة.
ــ سرية كما يُفترض، ولكن المدينة كلها تتحدث حولها وتضيف ما تحب إليها، والقسيس لا يهتم.. لعله اكتشف مبكرا ألغاز الحب، أو الخسارة.
ضحكت السيدة بفرح طفولي وأشارت إلى الزجاجة الثانية التي بدأت تفرغ :
ــ لديّ المزيد من النبيذ الأبيض.
فشربنا وتابعنا الحديث إلى حين حل أول المساء، هي تحكي عن كل ما تحب، وأنا أستمع وأقول القليل، ثم صار عليّ أن أغادر، فوقفت لأشكرها وأسألها عن غايتي من الزيارة..
* انتظر، بادرتني السيدة التي احمر وجهها بفعل النبيذ والذكريات، ثم غابت لحظات وعادت لتقدم لي صورة ملونة لفتاة تضم طفلا حديث الولادة إلى صدرها.. أعرف هاتين العينين الخضراوين والشعر القصير، هذا الوجه دقيق الملامح. أعرف هذه الشفاه العارفة بأسرار القبل.. ولكن: من هو هذا الطفل؟
* أين هي الآن، سألت السيدة الواقفة بصمت أمامي؟ وهذا الطفل؟
ـــ ابنها، كانت تعرف بأنك ستجيء مرة للسؤال عنها.. هذا عنوانها خلف الصورة..
*هل يمكنني الاحتفاظ بها؟
ــ لا، أعتذر، لا صورة أخرى لديّ لأيلين مع طفلها، أكتب العنوان لديك واذهب للبحث عنها، ولا تنسى الاتصال بي لتخبرني إن عثرت عليها أم لا، هي تعرف أنني أحبها.. هي حفيدتي المفضلة.
أخرجت السيدة ورقة صغيرة من جيب ثوبها الصيفي وقدمتها مرفقة بابتسامة ساحرة: ـــ هذا رقم الهاتف، اتصل.
ثم عانقتني بأمومة بالغة وقالت: أترى، هذه هي عبقرية الحب.
فتشت عن أيلين في لوزان، ولم أصل إليها، مع أن العنوان خلف صورتها وطفلها دقيق وواضح، ولكنها ليست هناك!
أين يمكن لفتاة بصحبة ابن رضيع أن تكون..
في جنيف، عند أقرباء لها، قال البعض ممن سألت، أو في زيوريخ لمتابعة دراستها، قال البعض الآخر، فبحثت في المدينتين ولم أجد أثرا لها.. لهما. وقبل أن أغادر سويسرا لآخر مرة، في سبتمبر/أيلول 1991، عدت واتصلت بالجدة اللطيفة في بازل:
ــ أين هي، تعبت ولم أعثر على خيط واحد يقودني إليها..
ــ لا أعرف.. وبدأت أشعر بالقلق
* والطفل، من هو هذا الطفل، ما اسمه؟
ــ ابنها، نسيت اسمه، اسمته ايلين باسم غريب لم أعرف كيف أحفظه..
شكرت السيدة ودعوت لها بحياة طويلة وهادئة، وحين هممت بإغلاق سماعة الهاتف، عاد صوتها من جديد وبإيقاع غريب ومرتفع:
* انتظر قليلا يا بني، نسيت سؤالك عن اسم الفتاة التي صارت قمرا في الحكاية الافريقية؟
ــ ايلين .. ايلين يا عزيزتي.

* كاتب سوري







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي