فيلسوف يذهب في رحلة مجنونة لنيل مليون دولار

2019-09-08

الرواية تصحب القارئ في رحلة مثيرة إلى ألمانيا التي قسمها سور برلين إلى دولتين في فترة الثمانيناترواية يسافر بطلها الباحث المتشائم، والساخر، والمنهك، القادم من أوروبا "القارة العجوز" إلى "وادي السليكون".


محمد الحمامصي

 

يمكن للرواية أن تناقش أهم القضايا وأن تنقد الواقع بسلاسة قل نظيرها، لكن أثبتت عدة تجارب روائية على غرار ميلان كونديرا قدرة هذا الجنس الأدبي على طرح أعمق وأصعب الأسئلة الفلسفية، وخلق مجالات أخرى للتساؤل، رغم أن الرواية أتت في بدايتها كإجابة بينما كان التساؤل حكرا على الشعر. الأسئلة الفلسفية الكبرى نجدها اليوم حتى في كتابات روائيين جدد مثل السويسري يوناس لوشر، الذي اختار الفلسفة طريقا لروايته الأخيرة “كرافت”.

حصل الكاتب والروائي السويسري يوناس لوشر على جائزة “بيرنر” للأدب عن روايته الأولى “ربيع البربر” وحاز على جائزة “الكتاب الألماني” في القائمة الطويلة، عن الرواية نفسها.

 

وتحمل روايته الأخيرة “كرافت” الكثير من تساؤلاته وأفكاره وخبراته بدءا من عمله مدرسًا في مرحلة التعليم الأساسي ببرن، مرورا ببضع سنوات قضاها يعمل في مجال صناعة الأفلام في ألمانيا، ودراسته في مدرسة ميونيخ للفلسفة ليحصل عقب تخرجه على الدراسات العليا في الفلسفة، ثم عمله محررًا أدبيًا حرًا في الصحافة، وباحثًا في معهد العلوم والتكنولوجيا في ميونيخ، وانتهاء بتدريسه مادة “علم الأخلاق” في مدرسة الاقتصاد بالمدينة نفسها، ومحاضرته في الأدب المقارن كأستاذ زائر في جامعة ستانفورد بأميركا.

 

جائزة المليون دولار

 

تصحبنا رواية “كرافت”، التي ترجمها معتز المغاوري وصدرت أخيرا عن دار العربي للنشر، في رحلة إلى حاضر “وادي السليكون” وعبر تاريخ ألمانيا في الثمانينات، تعكس خبرة لوشر بالسينما وعلاقته بالفسلفة والاقتصاد، حيث يتجلى الأسلوب الفلسفي العميق. فهي عن بروفيسور في اللغويات اسمه “كرافت”، يعاني مشاكل كبيرة مع زوجته لا مفر منها إلا الطلاق بالإضافة إلى أزماته المادية.

وقد وقعت عيناه على إعلان أرسله له صديقه “إستيفان”، البروفيسور في جامعة ستانفورد، عبر الإيميل. كان الإعلان عبارة عن مسابقة لمناقشة فكرة فلسفية تحت عنوان “رغم أن كل الأشياء كاملة، هل هناك فرصة لجعلها أفضل؟”، وأفضل إجابة تفوز بمليون دولار. فينتهز “كرافت” هذه الفرصة كي يتخلص من كل مشاكله الزوجية والمادية ويقرر الاشتراك في المسابقة.

إنها رواية اختار فيها لوشر أن يجعل “كرافت” غير اجتماعي، عميقًا، فلسفيًا، ينظر إلى الأمور نظرة مختلفة، تجمع شخصيته بين السخرية والكآبة؛ كي يثير عقل القارئ، ويجعله يتعمق بفكره هو أيضًا ويصل إلى إجابة لمحور الرواية الذي هو الذات الإلهية، والكون، والخير والشر عن طريق الدراسة والبحث وليس عن طريق الاقتناع الفطري.

كتب لوشر مقدمة للترجمة العربية كشف فيها عن ولادة فكرتها والتساؤلات التي استدعتها، قال “لقد حظيت عام 2012 بفرصة قضاء تسعة أشهر كباحث زائر بجامعة ‘ستانفورد‘ في ‘وادي السليكون‘ بكاليفورنيا. وسرعان ما بدا لي هناك، عندما تحدثت مع أصحاب الشركات الناشئة وطلاب الدكتوراه والمبرمجين، أننا نتكلم لغات مختلفة، وأن رؤيتنا للعالم تختلف بشكل جوهري.

 

الكاتب والروائي السويسري يوناس لوشر

هذا الاختلاف الجوهري يتمثل في التفاؤل غير المنقطع بالتكنولوجيا والتقدم، ذلك التفاؤل الذي اصطدمت به في الكثير من الأحاديث. كان الكثير ممّن تحدثت معهم على قناعة تامة بأن كل مشاكل البشرية الرئيسية يمكن حلها بواسطة تطبيق ذكي أو تقنية جديدة. أمَّا أنا فعلى العكس منهم، دائمًا أصر على أن مشاكل البشرية الرئيسية يمكن حلها بطريقة مثالية عن طريق مؤسسات ديمقراطية.

لكن أكثر ما أصابني بالحيرة أن تلك الأحاديث تحولت سريعًا إلى نوع من الأحاديث التسويقية؛ فنصف مَن تحدثت معهم بدا أن لديهم بعض الأفكار الرائعة على غرار: الفيسبوك، وغوغل، وأوبر، ويرغبون في تسويقها ولهذا جاءت أحاديثهم مليئة بالمبالغات الوقحة والتفاؤل غير المنطقي”.

وأضاف أنه بسبب هذه الحيرة نشأت فكرة كتابة رواية يسافر بطلها الباحث المتشائم، والساخر، والمنهك، القادم من أوروبا -التي وصفها وزير الدفاع الأميركي السابق رامسفيلد بـ”القارة العجوز” بشيء من الاحتقار- إلى “وادي السليكون” لنشاهد ما يحدث عندما يلتقي بشباب كاليفورنيا المتفائلين.

 

رحلة في الزمن

 

أوضح لوشر “يحصل ريتشارد كرافت -هكذا أسميت بطل الرواية، الباحث الألماني في العلوم الإنسانية- على دعوة للسفر إلى وادي السليكون للمشاركة في مسابقة علمية. يحصل صاحب أفضل إجابة -في هذه الحالة إجابة متفائلة- عن سؤال المسابقة على مبلغ مليون دولار. جاء سؤال المسابقة كالآتي ‘لماذا كل شيء على ما يُرام، وعلى الرغم من هذا يمكن جعله أفضل؟‘. هذا السؤال في الأساس ليس سوى صياغة حديثة لسؤال ‘الثيوديسيا‘ القديم: لماذا يسمح الإله بوجود الشر في العالم، على الرغم من أن قدرته ورحمته وسعتا كل شيء؟ هذا السؤال الديني الفلسفي القديم كان دائمًا يتعلق بالتفاؤل والتشاؤم.

 

 

يمكن للرواية أن تناقش أهم القضايا وأن تنقد الواقع بسلاسة قل نظيرها، لكن أثبتت عدة تجارب روائية على غرار ميلان كونديرا قدرة هذا الجنس الأدبي على طرح أعمق وأصعب الأسئلة الفلسفية، وخلق مجالات أخرى للتساؤل، رغم أن الرواية أتت في بدايتها كإجابة بينما كان التساؤل حكرا على الشعر. 


وقد قام الفيلسوف الألماني لايبنتس في بداية القرن الثامن عشر بصياغة إجابته الشهيرة عن سؤال ‘الثيوديسيا‘. جاءت إجابته كالآتي ‘إن صفة الكمال لا يمكن أن تنطبق سوى على الإله وحده‘. وبالتالي فإن العالم الذي نعيش فيه هو أفضل العوالم الممكنة على الرغم من وجود الشر”.

وأشار إلى أنه “في عام 1755، حدث زلزال مدمر في مدينة ‘لشبونة’ وراح ضحيته عشرات، بل مئات الآلاف من البشر. انتشر خبر هذه الكارثة سريعًا في أوروبا وزعزع التفاؤل السائد آنذاك.

كيف يمكن أن يكون عالمنا أفضل العوالم الممكنة ويلقى مئات الآلاف حتفهم دون أي ذنب؟ كرد فعل على تلك الكارثة، كتب الفرنسي ‘فولتير’ رواية ‘كانديد’ التي جاءت في شكل نقد متشائم وساخر لتفاؤل ‘لايبنتس’. هذا الصراع نفسه بين التفاؤل والتشاؤم يظهر من جديد في روايتي ‘كرافت'”.

ولفت الكاتب إلى أن الرواية أيضا تصحب القارئ “في رحلة إلى ألمانيا التي قسمها ‘سور برلين’ إلى دولتين في فترة الثمانينات. حيث نلتقي هناك بـ’كرافت’ في مرحلة الشباب. كان ‘كرافت’ يدرس آنذاك في برلين الغربية ويكرِّس اهتمامه للسياسة الاقتصادية الليبرالية للرئيس الأمريكي ‘رونالد ريجان’ ورئيسة وزراء بريطانيا ‘مارجريت تاتشر’. راقب ‘كرافت’ بحماس فكرة الدولة ذات المؤسسات القوية التي ينبغي أن تضمن تحقيق العدالة الاجتماعية.

وهي تُستبدل بفكرة ترك تشكيل المجتمع لقوى السوق الحر والقطاع الخاص. هذا الصراع الأيديولوجي الذي يصطدم به مجددًا بعد ثلاثين عامًا في ‘وادي السليكون’ “.

وختم لوش “أصبح ‘كرافت’ شاهدًا على سقوط ‘سور برلين’ عام 1989 وإعادة توحيد ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية وانهيار الاتحاد السوفيتي الشيوعي وإعلان الغرب الرأسمالي انتصاره الساحق على التاريخ. لكن كان على ‘كرافت’ أن يعرف أن الأمر ليس بهذه البساطة”.

 

كاتب مصري*

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي