حديث صباحي

خدمة شبكة الأمة برس الإخبارية
2008-11-06

*رشاد أبوشاور

حاول أن يبدأ نهاره بمرح. اقترب من النسر المتكوّم لصق ساق شجرة سرو، ووضع على مقربة منه صينيةً تغطيها شرائح اللحم 
ـ لا بدّ أن تأكل، لتتحسن صحتك، فالغذاء يا صاح أفضل من الدواء.
تقدّم النسر ببطء جّارا ورءاه قيده المعدني، وهو ينقّل نظراته بين وجه صلاح الدين والصينية ...
بلهجة تمثيلية، مع انحناءة:
ـ أعرّفك بنفسي: أنا صلاح الدين يحيى. كما ترى فأنا أحمل اسم بطل، ولا أحسبني بطلاً، وآمل أن لا يكون مصير رأسي كمصير رأس يوحنّا المعمدان. أنت الآن مقيّد، وهذا لمصلحتك. لا تستغرب، فقد وجدتك وأنت بحالة سيئة. احمد ربّك أنك لم تقع في أيد غير رحيمة. احمد ربك يا أخي ...
نهش النسر بمنقاره المعوّج قطعة لحم، رفعها إلى أعلى ثمّ أخذ يمزّقها بقوّة في الصينية، وازدرد بعضها، ومطّ عنقه المعوّج، كأنما يسلّك المسرب الذي ستمّر به قطعة اللحم.
ـ هكذا تعجبني. كل، فالبيت بيتك، وأنا لن أقصّر معك، فأنت ضيفي، وسأطلق سراحك قريبا.
ضحك صلاح الدين، وهرش رأسه:
ـ هذه لم تعجبني: سأطلق سراحك! أنت لست سجيناً، لست مختطفاً كما لو أنك معارض. أنت مجرّد نسر مريض، ولأنك نسر، فلا بدّ من تقييدك، يعني كما يفعل الطبيب المعالج الذي يخدّر المريض ليجري له عملية جراحية، والذي ربّما يضطّر لربط المريض بالسرير حتى لا يؤذي نفسه. الفرق أنك يمكن أن تؤذيني أنا رغم أنني معني بشفائك وعودتك لفضائك. بعد علاجك يا صاحبي ستشفى، و..تحلّق عالياً في سماء الله الفسيحة.
نتش النسر قطعة لحم، قذف بها فوق رأسه ثمّ تلقفها بمنقاره، أرجحها يمينا ويسارا كأنما يدوّخها، ثمّ التقمها.
ـ أود أن أسألك: هل صحيح أن النسر العربي، إذا ما دنت لحظة موته، يحلق حتى أقصى مدى في السماء، باتجاه الشمس، إلى أن ينفجر، ويتناثر في الفضاء الرحب؟
يا إلهي! ..إن صدقت هذه المعلومة، فلا شك أن هذه الميتة تحسد عليها النسور. الفضاء الرحب قبر النسور! هذا شعر والله العظيم !. لماذا استكان العربي في الرغام، وصار دودة؟. من استلّ منه روح النسر يا صاح؟!
نقّل النسر ساقيه بتثاقل، ودفع رأسه عالياً ماطّاً رقبته المعوّجة، ومشى كما لو انه سكران يترنح، محاولاً التماسك حتى لا يقع.
توجس صلاح الدين لما رآه في عيني النسر من اتقاد، فتراجع قليلاً وعيناه تراقبان بحذر.
ـ أحضرت لك علاجاً من الطبيب البيطري. ها أنا ذا قد حللته في الماء، وهو سيساعدك على استعادة عافيتك. من الآن وحتى تشفى سنكون أصدقاء، ومن ثمّ ستعود إلى سمائك العالية، أمّا أنا فسأبقى هنا، على هذه الأرض، حيث النكد، وضيق الأفق، وتحمل سماجة حياتنا الممّلة.
قرفص صلاح الدين، وأسند ظهره إلى ساق شجرة السرو الأعلى حول ساحة البيت، وأخذ يقلّب صفحات كتاب (ضواري الطير) للغطريف بن قدامة الغساني، الذي عاش في القرن الثاني الهجري، والذي كتبه عن أنواع الضواري، وأمراضها، وعلاجها حين تمرض، وترويضها لاستخدامها في الصيد والقنص.
ـ هذا الكتاب حصلت عليه بعد نشاف ريق يا صاحبي، ودوران على المكتبات بحثا عن كتاب يعرّفني بمرضك، وأسبابه، وطرق علاجه، إلى أن عثرت على كتاب جدّنا الغطريف هذا في مكتبة قرب المسجد الكبير. لخمني ذلك الطبيب البيطري وهو يحدثني عن النسور، وأنواعها، وأمراضها، وعاداتها، وهجراتها، وتزاوجها، وتكاثرها، وبولها، وغائطها، ثمّ طلب منّي إحضارك إلى عيادته، وأنا لا أستطيع فعل هذا، فعطلتي يوم الجمعة، وأنت خطر إذا لم تكن مخدرا يا صاحبي، والطبيب الثرثار ذاك عطلته يوم الجمعة، لذا ذهبت إلى المكتبة وبحثت عن كتاب يعينني على فهم حالتك بقدر الإمكان.
أصغ جيداً يا صاح لما كتبه جدنا الغطريف عن أمراض الصقور، والشواهين، والبازيّ، وأنواع الضواري.
يكتب رحمه الله: وإذا رأيت الطير قد عرض له السّدر ـ بفتحتين ـ ورأيته يغمض ويميل رأسه، ويكثر فعله كذلك، فاعلم أن ذلك من كثرة الرطوبة في دمه.
وضع إصبعه بين دفّتي الكتاب، وأخذ يراقب النسر الذي بدت نظراته حزينة، ثمّ فتح الكتاب وعاد يخاطب النسر الذي بدا في وقفته وكأنه موشك على السقوط لفرط الإعياء :
ـ أمّا السّدر فهو الدوار يعرض لراكب البحر، بحسب ما جاء في كتاب جدنا الغطريف. أيكون ما ألمّ بك هو دوار سماء، وأنت تلوب وحدك، لا أنيس، ولا خل وفياً؟ أيكون أنك أصبت بدوار الحب من نسرة رشقت قلبك بنظرة، وضربت جناحيها بقوّة، وابتعدت عنك، وتركتك صريع حب قتّال؟ أتعرفون الحب يا معشر النسور؟ وإن كنتم تعرفونه، فكيف تعبّرون عنه؟!
تصوّر أن جدنا الغطريف يكتب عن علاج الطيور المصابة بالربو، والنفس ؟! لقد ظننت دائماً أن الربو مرض عصري، يرتبط بعصر الصناعة، والتكنولوجيا، و..انكتام نفس الكائن العربي!
أنت يا صاحبي ورّطتني في البحث عن كتب تساعدني على علاجك لاستعادة عافيتك. أأنت نسر عربي حقاّ ؟ وهل هناك نسور عربية ونسور غير عربية؟
حتى نسورنا مريضة بالصرع، والربو، وضيق التنفس ...
أنا يا صاحبي حزين، وأنت ..لا أدري إن كنت تسليني، أم أنك تلهـــــــيني عن أشغالي!
أكنت تنقصني يا أخي؟!
أنصحك أن تأكل، فهذا لحم، صحيح أنه مستورد، لكن المواطن العربي، غالبا،ً لا يحصل عليه .
كل شيء في بلادنا مستورد. سأحكي لك هذه النكتة لعلّك تضحك: أمس ذهبت إلى سوبر ماركت عبدو. هو ليس سوبر ماركت، إنه دكان متواضع، لكن عبدو يتباهى به لعدم وجود غيره في حارتنا. المهم، دخل رجل متواضع الملابس والشكل، وسأل بلا مبالاة:
ـ سيد عبدو هل عنك بيض تجميع ماليزيا؟
لم تضحك، فأنت لا تعرف العربـــية، ولم تســــــــمع بماليزيا، ثمّ أنت لا تأكل بيضاً، لا مقلياً، ولا مسلوقاً. حتى البيض نستورده !.
أنا حزين يا ..ما رأيك أن أناديك (أبو عرب)؟! يلا أنت منذ اللحظة (أبوعرب). أنت مواطن عربي ولكنك بدون، فلا أحد سيمنحك جنسيّة إحدى الإثنتين وعشرين دولة!.
أراك ترتجف..أبسبب نوبة ستدهمك، أم رعبا من منحك جنسيّة عربيّة؟.. اطمئن يا صاح، فأنت ستبقى مواطنا سماويا إلى أن تموت!

* قاص وروائي وصحفي فلسطيني

فصل من رواية جديدة بعنوان (ترويض النسر) ستصدر قريبا.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي