قصيدة الأهل - عبدالناصر مجلي

2025-11-22

..........
وهم الذين من وَدٍّ يُضيئون بحنينهم إلينا
تلك الطُّرقَ السُّودَ التي ارتدناها مُغالِبين
عندما أخذتنا من بين أيديهم غياهبُ الذَّهاب
صُوَرُ ما مرَّ من أحداثٍ وعناقاتٍ وخوفٍ
ما سوف يَدَهَمُنا في عرصاتِ الذي نذهب إليه ولا نصلُ
مخلوقاتُ الدَّمعِ العصيَّةُ على النِّسيان في مواسمها تذكرُ لنا
نحن المتعالين على أقدارنا وزهرِ السُّهاد
وتلفُّتاتِ المفاوزِ التي نحملها في جيوبنا مثل حلوياتِ أعيادٍ
كنَّا فيها بالقربِ من أشجارِ نظراتِهم المُورِقةِ بتمنُّعِ المغادرة
وثمارِ الجدوى من البقاء بينهم دون غياب
الأهل
"المُهلِّلين"
كلُّ ساعةٍ
محسوبةٌ
الأعشارُ
والتَّرقُّبُ،
نحنُ أولادَ المنافي الذين نسكن حدقاتِهم
بكلِّ أزوارِ الشَّوقِ وسُخونةِ اللوعةِ والتَّذكُّر
والأثافي
وحرملِ النَّكد
ورجفةِ الأشبار
والخَطوِ
الذي قُدَّ
من رقبةِ السُّؤددِ النَّاعسِ الأجفان
ونجمِ اللوعاتِ
وقطرِ الإثمد
وماءِ النَّارِ الخفيف
وتهجُّدِ الشَّفرات
نحنُ سادةَ الصَّرخاتِ المبتورةِ من غِلِّ الذين
كَمَنَّا لصغائرِ
الفَقْدِ المُحَجَّل
في العَبَراتِ والأنواء
أيدينا فوق أيدي
السَّادرين وحبقِ الأقنان
وبأسِ خوفِنا المسنونِ
زادَ المسافرين
في ظلِّ من كُنَّاهم
على غفلةٍ من أمانينا
ومُزنِ النَّدم
المُعفَّرِ بِهَبَّةِ الأرصاد
الفاعلون بتمتماتهم أفاعيلَ الطِّيبِ المُقنَّن في الرَّاحاتِ،
وعطفِ النَّدى المنثور في الجهاتِ المفتولةِ الهَمْسِ والتذكُّر.
فهل أتى علينا حينٌ من الإبصار نحنُ بدوَ الاختفاءاتِ الواجفةِ عمداً
للضَّحكاتِ التي خلَّفناها وراءنا عالقةً بين حرارةِ جلودِهم وشِغافِ الثِّياب؟!
الأمُّ مثلاً
عندما تَرطُنُ
بكلِّ خيوطِ سجَّادةِ
الصَّلاة والاستغفار
أنْ "لا ترحلوا..."
فرحلنا.
من يُعلِّمنا إدراكَ فقهِ الخسائرِ التي صنعناها في طيشِ التَّمنّي
مُتعالين بتلويحاتِنا إذْ نغادرُ مَرابِعَنا مُتوتِّري العِناقِ والضَّمّاتِ إلى حيث نجهل
صرعى ومَغشيًّا علينا ومفتونين؟!
كم احتياطاتٍ جَذْلى لُزومَ التأنِّي المتعوبِ شنَّفنا أرواحَنا بترديدها
إذْ يُدركنا حبقُ الودِّ الذي مضى في الليلة الأولى بعيداً عنهم
في ثنائياتٍ ما ظنَنّاهَا تدوم طويلاً
ورجَّةِ الفلتاتِ المسموعةِ وتلاعبِ السَّفراتِ والأرجاء؟!
الأهل..
كيمياءُ مقسومةُ النَّتائجِ في مُسوداتٍ صَحَّحتها أقدارٌ ثقال
دبيبُ المدنِ في قلوبنا الواجفةِ تحت سماواتٍ استحوذتنا بالقِيلِ والقال
رائحةُ العطرِ الذي سنلتقيه في غيابِنا عنهم
وفراشاتُ الفصولِ مُحوِّمةٌ في انتظاراتِنا لمشمومِ أصواتِهم ولا نصلُ إليه
من هم
سادةُ أقدارِنا
القُساةُ بدعواتِهم لنا؟!
البكَّاؤون في كلِّ وادٍ
فَقْداً وحسراتٍ
لغيابِ ثيابِنا
عن المشاجبِ
التي ألِفُوها
اللحنُ الطليقُ في برارينا المُعتمةِ إلَّا من نجوى سفحناها مُجاملين
على عتباتِ بيوتِهم ساعةَ تُغلَقُ فيها الأبواب
الماضي مأخوذٌ غِيلةً، مقدورٌ عليه بأفعالِه المضارعةِ الصِّفاتِ والإعراب
الوقائعُ التي ساندتنا بفضلِ نظراتٍ خفيَّةٍ تَبِعُونا بها دون قصد
وكَبِدٌ وحزازاتٌ وأحماضُ أكبادٍ والتياع
ونحنُ في غيِّنا مُعلَّقين بِفُتوَّتِنا المسكينةِ إلَّا منهم
كم
جسراً
عبرنا
في انحدارنا
إلى التُّخوم
ولم
نلتفتْ
صُدفةً
إلى الوراء؟!!
وحدها قهوةُ الصَّبَاحاتِ أدركتْ مُلوحةَ دمعِهم
يسيلُ علينا في كِبَرِنا البعيدِ من ضَبَحٍ مُبين
تماوجُ "الجاوي" برفَّتهِ المُستيقظةِ في ملكوتِ دعواتٍ حرَّى
وتهاليل ونظراتٍ دهمتنَا خِلسةً دون علمٍ منَّا في الأغلاس
أولادُ الصُّدفةِ حينما تتناهبُنا المكائدُ في المنعطفات
وعندما نعود
يسبقنا
ندمٌ
درَّبناهُ طويلاً
على التَّجلُّدِ وما نحنُ
مُحجَّلين في خجلٍ مُخادعٍ فجَّرَ نفسَهُ
في وجوهِنا دفعةً واحدة
دونَ مُراجعةٍ محسوسةِ الأنفاس
كم سنذكرُ حُرقةَ لهفةٍ تركناها لهم على العتبات
وكم مرَّةٍ في غيابِنا تناسيناهم ولم يفعلوا !!
هؤلاء الأهل
هؤلاء الـ "نحنُ" مُنشطرين في الأرجاءِ دون حذرٍ كافٍ
هؤلاء الـ "هُمُو"
المُحلِّقون في سماواتِ أيامٍ تركناها على تُخومِ أحقابٍ سافرة
كانت لنا قبل الرَّحيلِ المنقوصِ بالجراءة الأولى
الأصواتُ التي لم نُطلقها بعد أن أفقدتنا المَفاوِزُ حنكةَ السَّمعِ والإسماع
الأعيادُ المُرجأةُ حتى نعود
الأماسي التي لم نستغلها جيدًا لممارسة الحنين
دورةُ الأقمارِ الخارجةِ من أكبادِنا حينما تتخطَّفُنا طيورُ المنايا
بحثاً عنهم نحنُ الساكنين حوصلاتِ أعمارِهم الموقوفةِ لنا
تباريحُ مِسْكٍ
جذوةُ عقيقٍ
ضجيجُ زعفران
مقاطعُ ألحان
لوزُ ترقُّبٍ نَدِيّ
مآقي الانتظارِ الطَّويل لعبورنا إليهم مُثْخَنِين
بالتذكُّر
والتَّرقُّب
والأشواق
بعدما ملَّحتها كُرَاتُنا الخاسرةُ في الهجران
من نحن...
من هم...
في ليلِ بداةِ أيامِنا المضيئةِ بالنأي والإيغال
من نحن...
من هم...
في متنِ القصائدِ التي لأجلهم معذرةً تُكتبُ الآن
من نحن...
من هم...
في سفورِ تردُّدِنا المُقيمِ فيهم وما بان!!
من أيِّ نافذةٍ في المسالكِ نأتيهم لنبكي بين إشفاقِهم علينا
أوزارَنا غيرَ المقصودة، أولئك الذين انطفأت ذُبالاتُ أعمارِهم
دون أن نرى رعشةَ الفراقِ في أبدانِهم الخاويةِ إلَّا مِنَّا
أو اشتعالَ قاماتِهم الغائبةِ في دِمَنِ الذَّاكرةِ وجمرِ التَّباريح
أيَّ اتِّجاهاتٍ ستأخذنا إليه العبراتُ إذْ نودُّ العودةَ إليهم بلا خجلٍ أو تساؤل
كيف يُمكننا نحنُ الأولادَ العُصاةَ بشوقِنا المهجور
اجتراحَ الانهيارِ بين أيديهم دون زَيْفٍ أو أكاذيب
نعلمُ علمَ المودَّةِ تُلوِّن غاياتِها وسِرَّها المسموع
الأهل
الأكباد
التي
جرَّحتها
العاديات
في
انتظارِهم
الطَّويل
الذين نمدُّهم بمديحِ حُبِّنا العالي والمفضوح
كم مجرَّاتٍ سنعبرُها يا أهلَنا إلى مقاصدَ هاربةٍ من بين أيدينا
في سعينا الطائشِ لإثباتِ ذواتٍ عاجزةٍ دون هواكم
وأنهارٍ يابسةٍ بوحشةٍ بخَّرتها عَبْرَاتٌ ذرفناها
في سعينا المبتورِ إلى نسيانٍ لم نقدر على مُسايستهِ أبداً  !
يا أنتم
جذرَنا الأول
ودُعاءَنا الذي أجبرناهُ على الاستجابة
ولم نُدركْ ذلك إلَّا الآن
ماذا سنقول للصُّوَرِ التي أمْحَلَتْها الذِّكرى
ماذا سنقول للأمِّ التي انتظرتْنا ألفَ عام
كم يداً سنُقبِّل؟! يُدركُنا تاريخُ أسفٍ مجهولِ الهويّة
تعبيراً عن ضراوةِ حماقاتٍ ارتكبناها ببراءةِ السَّهْو
وأيُّ موضعٍ ماطرِ الأديمِ والنَّبتِ يصلحُ
لإجراءِ مبارزةِ عناقاتٍ وفَّرناها لهم سنينَ طوالاً وشواهق.
ماذا
عن بقيَّةِ الأهلِ الذين غيَّبتهم الغفواتُ وراءَ برزخِ النِّسيان
الإخوةُ والأخواتُ والعمَّاتُ والأعمامُ وأبناءُ الخؤولة
والكلبُ
والصَّعفرُ
والنَّارجيلُ
وسُمُّ الخردلِ
وطنافسُ الرِّيبةِ والشَّكِّ
وترقُّبُ بنتِ الجيرانِ في موتِها الفحل
ورفاقُ المَسْغَبَةِ في صِبانا البعيد
والكلماتُ التي قالوها لنا باكين بنيّةِ المُساءلة:
"عودوا إلينا
يا رُمَّانَنا المحبوب
يا أحِبَّتَنا
يا حبَّةَ العين
وقلبَ الرُّوح
المتعالي في سماواتِ خَفْقِه
البارعةِ الإمهال
فنحنُ يا كُلَّنا نُحبُّكم"

يا أهلَنا
يا شجرَ العُمر
وقامةَ الحضور
الذي عاد
يا تمرَ الشِّتاءاتِ
وعسلَ تمنِّياتِنا المسبوك
يا نحنُ
يا كُلَّنا الكُلَّ
حضوراً نسعى
جاهدينَ إليه ولا نصلُ

... ياااااا أهلَنا !

 

حين لا وطن – ذات صيف

 

*شاعر وقاص وروائي يمني أمريكي 
*اللوحة المرفقة مأخوذة من مواقع التواصل











شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي