
عبير شاهين*
عرفت الإنسانية منعطفا حضاريا حاسما عندما شرع أفرادها في مواساة بعضهم عند الإصابة والمرض. انتقل الإنسان من مرحلة الوجود الغريزي المستسلم لقوى الطبيعة، إلى ممارسة أول أشكال البقاء بواسطة العناية بالنفس وبالآخرين. ولدت مهنة الطب من ذلك الهاجس وتطورت إلى مؤسسة اجتماعية حضارية لإصلاح أعطاب الجسد وتخفيف آلامه، رغم غياب الحدود بينه وبين السحر والكهانة طيلة جزء كبير من تاريخ الإنسانية. إلا أن هذه المهنة لم تكن يوما إلا مرآة تعكس تحولات المجتمعات وثقافاتها، ولعلها أكثر المهن التصاقا بحقيقة الإنسان، منذ أن وضع أبقراط أولى مبادئ فلسفة الشفاء. فالطب حوار لا ينتهي بين الجسد والسلطة، بين الفرد والمؤسسات، بين الضعف البشري وهاجس السيطرة.
بين أول جبيرة وضعها إنسان بدائي على جرح رفيق له، إلى الأجهزة الدقيقة والمؤسسات العملاقة في زمننا، عرفت مهنة الطب وصناعة الأدوية مسيرة طويلة تحولت فيها الصحة شيئا فشيئا من فعل مواساة وأخوة إنسانية، إلى سلعة تخضع إلى قوانين السوق والسياسة الدولية. وباتت النيوليبرالية تسري في عروقنا مع كل حبة دواء نتناولها، محولة أجسادنا إلى شاشات تعكس توازنات الشركات المتعددة الجنسيات وتطور أسهمها في البورصات العالمية، الصراع على سوق أدوية كورونا مثلا.
لست في حاجة إلى ممارستي لمهنتي كطبيبة للتنبه إلى واقع تسليع الصحة في عالمنا المعاصر، بل يكفيني دخول غرفة والدتي، حفظها الله، حتى أشاهد ذلك بأم عيني دونما حاجة إلى أرقام وبيانات. لست أبالغ إذا قلت إن غرفة والدتي تحولت مع السنوات إلى صيدلية حقيقية. وما زلت أشعر بالضيق في كل مرة وأنا أعاين كمية العقاقير المكدسة في خزانتها وعلى طاولة سريرها. أسألها إن استجدت لها أمراض لا علم لي بها، ثم أبدأ معها مناقشة صعبة ومفاوضات أستعين فيها بكل معارفي الطبية، وخبرتي في التعامل مع المرضى من أجل إقناعها بالاستغناء عن الأدوية التي أعلم يقينا بأنه لا مفعول لها سوى تسميم جسدها بمواد كيميائية إضافية. أمارس دوري بحزم ولطف تحت شعار «الرحمة فوق الطاعة»، وأنجح غالبا بعد نقاش طويل في حذف أكثر من نصف الأدوية من جدولها اليومي، وبالتالي من شرايينها. وللأسف لا ينتهي الأمر عند ذلك الحد، إذ أتفاجأ في الزيارة الموالية بأشكال وألوان من الأدوية التي جاءت من نصائح الجارات والصديقات، ومن الميديا الاجتماعية. ويكون مصدر الوصفات في أحيان كثيرة قسما من الأطباء الذين تنكروا لمبدأ «أولا، لا تضر» Primum non nocere الذي تقوم عليها مهنتهم النبيلة، ويقتضي منهم مراعاة مصلحة مرضاهم فقط عند وصف الأدوية وعدم الخضوع لمنطق السوق.
تناولت أمى أدوية لهشاشة العظام والسكري دون أن تثبت إصابتها بأي منهما. تسللت تلك العقاقير إلى جدولها اليومي من باب وهم الوقاية وبواسطة وصفات طبية،غير مسؤولة. وبالمنطق الوقائي نفسه، دأبت كذلك على تناول أدوية مقاومة لتكلس المفاصل لم تثبت أي دراسة علمية جدية فعاليتها. طبعا لست أشك في أن «درهم الوقاية خير من قنطار علاج» كما كانت تكرر.
لا يقف هوس والدتي والكثيرين منا بالصحة عند حدود العقاقير، بل صرنا نتحقق من ساعات نومنا ونشاطنا، ونحصي كم أخذنا من الفيتامينات، وكم ابتلعنا من الألياف، ونعد خطواتنا بدقة، ونحسب الوحدات الحرارية، ونُجري فحوصات الاستكشاف الدورية بنوع من الوسواس القهري. لا أنكر بالطبع أن كل هذه الإجراءات لها أهميتها ولا سبيل للاعتراض عليها. ولكن ما أروم قوله، هو أن التعقيد الذي يتحول بسرعة إلى قيد والقيد إلى توجس وانتظار، بل إلى رهاب يدفن تحته الخوف من الانحراف عن النموذج الأمثل للصحة. حبة صباحية، وأخرى مسائية، وثالثة للضغط، ورابعة للسكر، وهناك للقلق، ولتحسين المزاج.. أدوية تضمن انضباط الفرد في المجتمع واستمرار إنتاجيته ودوامه على عمله وبالتالي تقليص «فوضاه» وفرادته. إذن يُعاد تشكيله بضبطه حسب معايير السوق لأجساد عاملة فعالة.
في كتابه «المراقبة والمعاقبة» يتناول ميشيل فوكو مفهوم «الأجساد الطيعة» كنتاج للسلطة الحديثة. يرى فوكو أن مؤسسات كالسجون والمدارس والمستشفيات والجيش تسعى إلى إنتاج أجساد خاضعة، مطواعة، يمكن التحكم فيها وتشكيلها بما يخدم النظام الاجتماعي والسياسي، دون حاجة دائمة للعنف أو الإكراه المباشر. أما على مستوى اللوبي العالمي Big Pharma فالفرد يراقَب، يصنف، ويُعاد إنتاجه، وفق نماذج يمكن تسويقها. وربما الاستعارة ليست مبالغة إذا قلت إننا اليوم لا نستهلك الدواء، بل أصبح الدواء يستهلكنا. علينا أن نعي أننا تحت وطأة نظام رغم أهميته يخدم نظام النيوليبرالية. فالبيانات data التي تستقيها هذه الشركات العالمية تحولها إلى تجارب وأبحاث تجد أوج تطبيقاتها في حقل الوقاية، كما في حقل الاضطرابات النفسية والتجميل، والأمثلة لا تحصى. هكذا تتسلل النيوليبرالية إلى تفاصيل حياتنا لتضعنا تحت سيطرتها التامة. الدواء الذي يتكدس في رفوفنا أو في الصيدليات الكبرى تنتهي صلاحيته وغالبا ما يرمى. بينما في الدول النامية الدواء ذاته مرتهن بشروط للتسويق والتوزيع. فالمساومات تجري في كواليس سياسية وجغرافية. كما تمارس هذه الشركات ضغوطا سياسية واقتصادية لمنع هذه الدول من تصنيع الأدوية الجنيسة حتى بعد انقضاء مدة براءة الاختراع. تماما كما الغذاء الذي يهدر ويفيض من جهة ويحرم منه البعض الآخر حتى العدم. أما الطبيب، فهو الآخر غدا موظفا في آلة إنتاجية ضخمة. يُطلب منه أن يكون منفذا لبروتوكولات مرقمة، يدير مرضى يمرون أمامه كالأرقام. هل النيوليبرالية قد ربحت الحرب بالفعل؟ هل يمكن أن نكتشف بعيدا عن المركزية بقية إنسانية لم تبتلعها النيوليبرالية بعد؟ هل بقيت بقية من حرية؟
ثمة استعمار جديد يجري على مرأى منا ولا نجرؤ على تسميته: الجسد صار شكلا من أشكال المستعمرات الجديدة. يُحكم من الخارج ومن الداخل الذي وصفه ميشيل فوكو حين انتقلنا من «مجتمعات السيادة» إلى «مجتمعات الانضباط». استعاضت أنظمة التحكم عن وسائل القسر التقليدية بسلطة ناعمة تسكن الأفراد: الصحة، الوقاية، العناية بالنفس. هل ما زلنا نمتلك القدرة على النجاة من هوس الصحة المثالية؟
الإنسان كائن من رغبات تحكمه طبقات نفسية لا يبلغها أي رقيب أو طبيب، لأنه مسبوغ بغريزة الحياة والجمال والتجدد. بين ضغط المراقبة من جهة وتوقنا إلى حياة حرة متألقة من جهة أخرى، هناك سؤال جدلي لا بد من تداوله: كيف نصوغ توازنا جديدا يليق بكرامة وجودنا؟ الإجابات كثيرة ومتعددة كذاتياتنا. لكل منا نبعه حيث تكمن حكايته وتساؤلاته وهواجسه.
ربما… وربما والإبداع وحده يملك الجواب، لأنه لا يُقاس ولا يُحاصر ولا يضبط.
*كاتبة لبنانية