لطارق هاشم : تجليات الألم والفقد في «كل ما فعله دوستويفسكي»

2025-07-10

ممدوح عبد الستار*

 

يطل علينا الشاعر طارق هاشم بديوانه الشعري النثري «كل ما فعله دوستويفسكي»، كاشفاً عن عوالم داخلية متشابكة، تتأرجح بين الذاكرة الموجعة والفقد الحاضر، وبين العلاقات الإنسانية المعقدة والبحث المضني عن الذات. لا يقدم الديوان نفسه كقراءة مباشرة لأعمال دوستويفسكي، بل يستلهم روحه، ذلك العمق النفسي، وذلك الغوص في مناطق الألم والذنب والخلاص، ليترجمها إلى تجربة شعرية شخصية وحميمية. منذ عتباته الأولى، يدعونا الشاعر إلى فضاء خاص، يبدأ بإهداء رقيق إلى «قهوتها الاستثنائية في صباح الجمعة»، لينتقل بنا مباشرة إلى قصائد تكشف عن جروح لم تندمل، وعن شخصيات تركت بصماتها عميقة في وجدان الشاعر. الديوان، بقصائده النثرية المكثفة، يرسم لوحات متتالية من الحياة اليومية المتشحة بالأسى أحياناً، وبالتأمل الهادئ أحياناً أخرى، مستخدماً لغة مباشرة وحادة، وصوراً شعرية مكثفة. إنه بمثابة بوح ذاتي يرتدي قناع الشعر، أو شعر يتخذ من البوح الذاتي قضيته المركزية.
يحمل عنوان المجموعة الشعرية «كل ما فعله دوستويفسكي» طاقة إيحائية كبيرة، تفتح الباب على مصراعيه أمام توقعات وتأويلات متعددة. فاستدعاء اسم الكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي، المعروف بعمقه النفسي في تحليل شخصياته، وبطرحه للقضايا الوجودية الكبرى كالألم، والإيمان، والذنب، والمعاناة، والخلاص، يوحي بأن الديوان قد يسير على خطى مشابهة، ليس بالضرورة في تقليد الأسلوب، بل في استلهام هذه الروح المتفحصة للنفس البشرية. عبارة «كل ما فعله» تبدو وكأنها تلخيص أو تكثيف لتجربة دوستويفسكي، أو ربما هي إشارة إلى الأثر الذي تركه هذا الكاتب، والذي يمتد ليشمل تجربة الشاعر طارق هاشم نفسه. قد يكون العنوان أيضاً نوعاً من التساؤل، أو حتى الاتهام المبطن، فما الذي «فعله» دوستويفسكي بالضبط؟ هل هو كشف الحقائق المؤلمة؟ هل هو الغوص في العتمة؟ أم هو تقديم نماذج إنسانية معذبة أصبحت جزءاً من وعينا الجمعي؟ هذا الغموض المتعمد يثير فضول القارئ ويجعله يتساءل عن طبيعة العلاقة بين نصوص الديوان وهذا العنوان الإشكالي. أما «عتبة النص» الأخرى، المتمثلة في الإهداء: «إلى قهوتها الاستثنائية / في صباح الجمعة / طارق»، فتنقلنا من الفضاء الفكري الواسع، الذي يوحي به دوستويفسكي إلى فضاء شخصي وحميمي للغاية. القهوة، وصباح الجمعة، والضمير العائد على مؤنث («قهوتها»)، كلها عناصر تشير إلى لحظة خاصة، ربما تكون لحظة إلهام، أو ذكرى عزيزة، أو طقساً يتعلق بالكتابة أو بالتواصل الإنساني. هذا التناقض الظاهري بين ثقل اسم دوستويفسكي ورقة الإهداء يخلق توتراً، ويوحي بأن الديوان قد يجمع بين التأملات الفلسفية الكبرى والتجارب الذاتية الدقيقة.

على الرغم من أن «كل ما فعله دوستويفسكي» هو ديوان شعري نثري، إلا أن «تقنيات السرد» أو «السرد الشعري» تلعب دوراً بارزاً في بناء قصائده. لا يعتمد الشاعر على البناء القصصي التقليدي ذي الحبكة المتصاعدة، بل يلجأ إلى «السرد المجزأ» أو «اللقطات السردية المكثفة»، التي تقدم ومضات من حياة أو تجربة أو ذكرى. يتضح هذا جلياً في قصيدة «أبي»، التي تبدأ بفعل سردي صادم: «منذ ثلاثين عاماً/ ألقيت أبي من النافذة»، ثم تنتقل عبر لقطات متتالية لتكشف عن تداعيات هذا الفعل، وعن شخصية الأب المعقدة. يستخدم الشاعر تقنية «الصوت الذاتي»، أو «الراوي الأول» بشكل مهيمن، ما يضفي على النصوص طابعاً اعترافياً، ويجعل القارئ يشعر وكأنه يستمع إلى هموم الشاعر وأفكاره مباشرة. مثال على ذلك في قصيدة «ماريا»: «منذ ساعة واحدة فقط / هربت (ماريا) من رواية النفق / أخبرها (أرنستو ساباتو) / أن الراوي سيقتلها». هنا، يتداخل صوت الشاعر مع شخصية ماريا المتخيلة، ومع الكاتب أرنستو ساباتو، في لعبة «تناص» و»ميتا – سرد» ذكية. التناص مع أعمال أدبية أخرى (دوستويفسكي، ساباتو) ومع شخصيات أدبية (ماريا من رواية «النفق») هو تقنية أخرى يوظفها الشاعر لإثراء نصوصه، وإضافة طبقات من المعنى. كما يلجأ إلى المفارقة والتضاد لخلق توتر درامي، كما في صورة الأب الذي «لم يترك امرأة ولا رجلاً / إلا وحكى لهما / عن المرأة الطيبة/ التي كان يخونها كل مساء». تقنية التكرار، لبعض العبارات أو الصور تساهم في بناء إيقاع داخلي للنص وتأكيد بعض المعاني، كما في تكرار «كنت أنتظرك» في قصيدة «في المقهى». وأخيراً، يعتمد السرد الشعري لدى طارق هاشم على الصورة الشعرية المكثفة، التي تغني عن كثير من الكلام، مثل «البيت الذي قام/ على دمعة من دموع أبي/ لم يعد يسكنه سوى الأشباح». هذه التقنيات مجتمعة تجعل من قصائده النثرية نصوصاً حية، ذات قدرة على الإيحاء والتأثير، تتجاوز مجرد نقل الأفكار إلى خلق تجربة شعورية وفكرية متكاملة.
يتشكل عالما الزمان والمكان في ديوان «كل ما فعله دوستويفسكي» بطريقة خاصة تتناسب مع طبيعة الشعر النثري ذي الطابع الذاتي والتأملي. الزمان في الديوان ليس خطيا أو تاريخيا بالمعنى التقليدي، بل هو «زمان نفسي» و»زمان الذاكرة». تتداخل الأزمنة، فيمتزج الماضي بالحاضر، وتستدعى الذكريات لتلقي ظلالها على اللحظة الراهنة. نرى ذلك بوضوح في قصيدة «أبي» التي تبدأ بـ»منذ ثلاثين عاماً»، ثم تنتقل إلى وصف حال الأم المستمر في المعاناة («ما زالت تعدو»)، وتأثير صورة الأب «لسنوات طوال». الزمن هنا يصبح مرنا، يتمدد وينكمش، حسب قوة الذكرى وأثرها النفسي.

أما «المكان»، فهو متنوع، لكنه غالباً ما يكون «مكاناً حميمياً» أو «مكاناً له دلالة رمزية». «النافذة» في قصيدة «أبي» تصبح بوابة للتخلص من الماضي، أو لرحيل مؤلم «البيت الصغير في حي الأزهار» يصبح مكاناً مسكوناً بالأشباح وذكرى النذالة. المقهى في قصيدة «في المقهى» يتحول إلى فضاء للانتظار، ولذكرى الغائبين، ويصبح بحد ذاته شخصية («ليت المقاهي تعرف عاشقيها / لاستبدت بهم»). الممر الضيق في القصيدة التي تحمل الاسم نفسه يصبح استعارة للحياة أو لموقف وجودي صعب. الأماكن هنا ليست مجرد خلفيات، بل هي جزء من التجربة الشعورية للشخصيات أو للشاعر نفسه.
تتعدد الشخصيات، أو الأصوات، التي تسكن قصائد ديوان «كل ما فعله دوستويفسكي»، وهي في الغالب شخصيات تحمل أبعاداً نفسية ووجودية، وتساهم في تجسيد رؤية الشاعر للعالم وللعلاقات الإنسانية. «الأنا الشاعرة» أو «صوت المتكلم» هو الصوت المهيمن في معظم القصائد، وهو صوت يتسم بالبوح والتأمل، وأحياناً بالمرارة أو الحزن. هذا الصوت هو الذي يقودنا عبر دهاليز الذاكرة والتجربة الشخصية، كما في قصيدة «أبي»: «وأنا أحمل جثته لألقي بها / خارج رأسي». «شخصية الأب» في القصيدة الافتتاحية هي شخصية مركزية ومؤثرة، فهي تجمع بين النذالة («التي تركها تنعي ذكرى نذالته») والقدرة على التأثير في حياة الآخرين حتى بعد الموت الرمزي أو الحقيقي. «شخصية الأم» تظهر كضحية صامتة أو كشاهدة على الألم («صورته التي أربكت أمي لسنوات طوال / ما زالت تعدو / ما بين الصالة والمطبخ»). «السيدة في آخر الممر» و»نادية سالم» التي بكت في قصيدة «أبي»، تمثلان أصواتاً ثانوية لكنها تساهم في بناء الجو العام للفقد والألم المجتمعي. في قصيدة «في المقهى»، تبرز شخصيات «الراحلون» و»العارفون بسرهم» و»الهاربون إلى محبة منتهية الصلاحية»، وهي نماذج إنسانية تعيش حالات من الفقد والبحث والانتظار. «المقهى» نفسه يتحول إلى ما يشبه الشخصية التي تحمل أسرار عاشقيها. «العجوز بعكازين» في قصيدة «في الممر الضيق» هي شخصية رمزية، قد تمثل الزمن، أو القدر، أو صعوبات الحياة («صنعتهما المأساة»). «ماريا» في قصيدة «ماريا» هي شخصية «ميتا-أدبية» بامتياز، فهي تهرب من رواية أرنستو ساباتو، وتتحدث عن شخصية «خوان بابلو» المتوترة والكاذبة، في لعبة تكسر الحدود بين الواقع والخيال، وبين النص الأدبي والحياة. هذه الشخصيات، سواء كانت واقعية أو متخيلة أو مستدعاه من عوالم أدبية أخرى، تساهم في خلق عالم شعري غني بالتجارب الإنسانية المعقدة، وتطرح أسئلة حول الحب، والفقد، والخيانة، والبحث عن المعنى.

من خلال نصوص ديوان «كل ما فعله دوستويفسكي»، تتكشف ملامح فلسفة ورؤية الشاعر طارق هاشم، وهي رؤية تبدو متجذرة في تأمل عميق للحالة الإنسانية، وللعلاقات المعقدة التي تربط البشر ببعضهم بعضا وبذاكرتهم. يمكن القول إن «فلسفة الفقد والذاكرة» تشكل محوراً أساسياً في الديوان. الشاعر يستدعي الماضي، ليس من باب الحنين الرومانسي، بل من باب محاولة فهم أثره الحاضر على الذات وعلى الآخرين. قصيدة «أبي» هي تجسيد صارخ لهذه الفلسفة، حيث يصبح الماضي عبئاً وثقلاً، ويصبح التخلص منه ضرورة مؤلمة. «رؤية الشاعر للعلاقات الإنسانية»، تبدو متشائمة أحياناً، أو على الأقل واقعية بشكل مؤلم. الخيانة، الفقد، سوء الفهم، والوحدة هي موضوعات تتكرر في القصائد. شخصية الأب المخادع، والعلاقات العاطفية المنتهية أو المعقدة، والغرباء في المقهى، كلها تعكس هذه الرؤية. هناك أيضاً «بُعد وجودي» في شعر طارق هاشم، يتجلى في تساؤلات حول معنى الحب والحياة والموت والانتظار. قصيدة «في المقهى» تقول: «الهاربون إلى محبة منتهية الصلاحية / يخرجون الآن بحثاً عن قبورهم». هذه الصورة تعكس عبثية البحث عن الخلود في علاقات زائلة. «استلهام دوستويفسكي» في العنوان ليس مجرد إشارة عابرة، بل قد يعكس تبني الشاعر لرؤية دوستويفسكي، التي ترى الإنسان ككائن معقد، قادر على أقصى درجات النبل والانحطاط في آن واحد، وأن المعاناة قد تكون طريقاً للمعرفة أو حتى للخلاص. ومع ذلك، لا يقدم الشاعر إجابات جاهزة أو حلولاً، بل يطرح الأسئلة ويقدم الصور والمواقف التي تدفعنا إلى التفكير والتأمل. رؤيته للعالم تبدو وكأنها رؤية «شاهد عيان» على جراح الذات والآخرين، يحاول أن يلتقطها بلغة الشعر، وأن يجد لها معنى أو صدى في وعينا الجمعي، إنه شعر يرفض التبسيط، ويحتفي بتعقيدات النفس البشرية، ويسعى إلى كشف الحقائق المؤلمة دون تجميل.

 

*كاتب مصري









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي