
مروان ياسين الدليمي
في البدء كان الزمن، وكان في جوفه ما يشبه الحنين، ذلك الحنين الذي لا يبحث عن ماضٍ بعينه، بل عن لحظةٍ لم تُخلق بعد، لحظةٍ يتقاطع فيها الجمال مع الوعي، كما لو أنّ الفن هو اللغة الوحيدة التي يمكن للإنسان أن يحدّث بها نفسه في مواجهة العدم. في تلك المنطقة المعلّقة بين الذاكرة والتوق، يولد الفن، لا ليمنحنا يقينا، بل ليكشف هشاشة ما نظنه ثابتا. هناك، في هذا المعبر الخفيّ، تتقدّم الكتابة بوصفها فعلاً من أفعال الوجود، وتغدو القصة مرآةً للوعي وهو يحاول القبض على صورته قبل أن يبتلعه الوقت.
العين تكتب
المجموعة القصصية «حب.. وحمص.. وثالثهما نيتشه» للقاص جمال الهنداوي، الصادرة هذا العام 2025عن دار السرد للنشر والتوزيع، تبدأ لاكحكايات قصيرة متجاورة، بل كرحلةٍ في طبقات الروح، حيث يصبح اليوميّ ممرا إلى الميتافيزيقي، والحدث البسيط مجرّد ذريعة لتأمل أعمق في معنى الحياة والعزلة والجسد والحب. اللغة عند الهنداوي ليست وسيلة سرد، بل كيانٌ قائم بذاته، كتلةٌ من الضوء تلتفّ حول نفسها، تبحث عن شكلٍ يليق بها. لذلك، لا تُروى القصص بقدر ما تُرى، كما لو أنّ العين هي التي تكتب. وكلّ جملة في الكتاب تنبض بما يشبه الموسيقى الخافتة التي يسمعها القارئ في نفسه أكثر مما يقرأها بعينيه. ما يفعله الهنداوي في هذا العمل أقرب إلى تمرينٍ على الإصغاء العميق للعالم. فالأشياء في قصصه تمتلك روحا، والعلاقات تتحوّل إلى مرايا تتبادل الصور في صمت. «الحب» في هذا السياق ليس عاطفة، بل شكل من أشكال المعرفة. و»الحمص»، بما يحمله من بساطة وسخرية ضمنية، ليس مجرد تفصيلٍ شعبيّ، بل استعارة للإنسان المقهور وهو يحاول أن يمنح لحياته نكهةً وسط الرماد. أما «نيتشه»، الحاضر في العنوان كظلّ فلسفيّ، فيتجلّى في النصوص كموقف من الوجود لا كفيلسوفٍ مرجعي، إنه الشاهد على تحوّل الإنسان من الخضوع إلى السؤال، من التكرار إلى الإرادة، من العجز إلى الجمال بوصفه مقاومة.
نص مفتوح على احتمالات القراءة
يمزج الهنداوي بين الجمال والمأساة، كما لو أنّه يمزج بين الطين والنار. في كل قصة يخلق عالماً صغيراً يدور حول محورٍ خفيّ هو البحث عن المعنى وسط ركام التجارب. هنا تتجاور الضحكة والدمعة، الهشاشة والقوة، الغياب والحضور. لا يقدّم الشخصيات كمخلوقاتٍ تُرى من الخارج، بل كأصواتٍ تتحدّث من الداخل، تتفكّك في اللغة، كما تتفكّك المرآة تحت الضوء، ما يجعل الكتاب أقرب إلى نصٍّ مفتوحٍ على احتمالات القراءة منه إلى مجموعة قصصية تقليدية. من الناحية الجمالية، يتعامل الهنداوي مع الزمن كما يتعامل النحات مع الحجر: لا يلغيه، بل يترك آثاره واضحة على السطح. القصص لا تسير إلى الأمام، بل تلتفّ حول نفسها في دوائر من التذكّر والنسيان. الماضي ليس خلف الحاضر، بل يتخلّله كما يتخلّل الضوءُ الغبارَ في غرفةٍ مغلقة. هذه العلاقة الملتبسة مع الزمن تمنح الكتاب طاقته التأملية؛ إذ يتحوّل الزمن من مجرّد إطارٍ للأحداث إلى مادةٍ تُنحت بالكلمات. كل نصّ في الكتاب هو محاولة لفهم كيف يمرّ الزمن من خلالنا، لا من حولنا. اللغة هنا ليست زينة ولا وسيلة، إنها كائنٌ حيّ، يتنفّس ويتألّم ويُصاب بالدهشة. أحيانا تُحسّ وأنت تقرأ أنّ الكاتب لا يكتب من الذاكرة، بل من داخل التجربة نفسها، كأنه يعيشها الآن، في هذه اللحظة، أمامك. في هذه اللغة يختلط الفكر بالعاطفة، والفلسفة باليومي، حتى يغدو من الصعب الفصل بين الجملة كفكرة والجملة كصوت. هذا التداخل بين الفكر والحسّ هو ما يذكّر بأسلوب نيتشه ذاته حين كتب: «إنني أكتب بفكري كما يكتب الرسام بضوء الفجر».
الأمكنة ــ فضاءات من الذاكرة
لا ينشغل المؤلف ببناء الحبكة بقدر ما ينشغل ببناء الوعي داخل القارئ، إنّ الجمال هنا ليس هدفا، بل طريقا إلى فهم الذات وهي تواجه انكسارها. كل قصة، مهما بدت عابرة، هي مرآة صغيرة للروح وهي تعيد اكتشاف هشاشتها. الشخصيات تمشي داخل اللغة كما يمشي العابر داخل حلمه: بخطواتٍ مرتجفة واثقة في آن. تتبدّى بغداد والمدن الأخرى كمشاهد رمزية، كأنها فضاءاتٌ من الذاكرة أكثر من كونها أمكنة، أما الزمن فليس إلا ستارا تتسلّل من خلفه الحكايات لتقول إنّ الإنسان، في النهاية، هو الحكاية التي لم تكتمل. ما يميز هذا العمل هو أنّه لا يبحث عن خلاصٍ سرديّ، بل عن توتّرٍ جماليّ. فالهنداوي لا يريد أن يقود القارئ إلى نهاية، بل إلى نوعٍ من الاستيقاظ البطيء على المعنى. إنّ القصص عنده تشبه لوحاتٍ من الضوء الرمادي، فيها الحزن شفيف كالماء، واللغة شيفرةٌ تفتح الداخل لا الخارج. هناك وعيٌ حادّ بأنّ الفن لا يخلّص من الألم، بل يمنحه شكلاً يمكن احتماله. في كل نصّ، يضع الهنداوي الجمال في مواجهة القسوة، لا ليصنع توازناً، بل ليذكّرنا بأنّ التنافر هو جوهر الوجود، وأنّ الفن ليس حلاً، بل سؤالٌ آخر أكثر صفاءً.
نيتشه ــ صوت من أصوات النص
تحت كل هذا، يسري خيطٌ فلسفيّ رفيع: ماذا يعني أن نعيش، أن نحب، أن نكتب؟ هنا يظهر نيتشه لا كمرجعٍ ثقافيّ، بل كصوتٍ من أصوات النصّ، كأنه الرفيق الصامت في رحلة الوعي. فالهنداوي، مثل نيتشه، لا يؤمن باليقين، بل بالتحوّل. الكتابة عنده ليست بيانا للحقيقة، بل تجربةً للحضور. والحب، في صورته القصوى، ليس سوى تمرينٍ على الخسارة، لذلك فإنّ عنوان المجموعة نفسه يحمل نبوءة: أن الحب والحمص، تلك الرمزية الشعبية البسيطة، لا يكتملان إلا حين يطلّ نيتشه بثقله الفلسفي، كأنه يقول إنّ الجمال لا ينفصل عن الفكرة، وأنّ كل جمالٍ هو شكلٌ من أشكال المقاومة ضد العدم.
أن نرى العالم
في جوهره، هذه المجموعة القصصية دعوة إلى النظر لا إلى الفهم. إلى التذوّق لا إلى التحليل. إنه يقترح علينا أن نرى العالم، كما لو أننا نراه لأول مرة، من خلال عينٍ تعرف أن كل ما تراه زائل، لكنّه رغم ذلك يستحقّ التأمل. ولعل هذا هو سرّ الجمال الذي يسكن العمل: تلك القدرة على أن نحزن دون يأس، وأن نضحك دون نسيان، وأن نكتب كما لو أن اللغة نفسها طريقٌ إلى الخلاص.
في النهاية، لا يغلق الكاتب أبوابه، بل يتركها مشرعة على الضوء والوقت. يذكّرنا بأنّ الفن هو الذاكرة الوحيدة التي لا تشيخ، وبأنّ الجمال ليس في ما نراه، بل في ما نتذكّره حين يغيب. هكذا يعود كل شيء إلى الزمن، إلى تلك الدائرة التي لا تنتهي، حيث يصير الفن مرآةً لوعينا، والزمن ظلاً نلحق به دون أن ندركه. عند هذه الحافة، يدرك القارئ أنّ الكتاب ليس عن الحب وحده، ولا عن نيتشه، بل عن الإنسان وهو يحاول أن يكون جميلا في وجه الفناء.
ولمّا ينتهي النصّ يبدأ، ويظلّ السؤال معلّقا: هل يمكن للجمال أن يُنقذ الزمن من التكرار؟ أم أنّه، في النهاية، صورةٌ أخرى من مصيره الأبدي؟