
صلاح بوزيان*
كل نوافذ القصر مفتوحة، تركت الشمس خيوطها الدافئة في المكان، العصافير تدخل المكان تقتات وتشرب الماء هادئة، كان التبريزي بين النوم واليقظة قال: « أذكر أنني سافرت إلى البحر مع أحد الزهاد.. علمني صيد السمك ودربني على الصبر، كنت ضَجِرا بادئ الأمر ثم تعودت المكوث لوقت طويل، عدتُ إلى القرية طفلاً من نوع مختلفٍ، تركتُ ركوب الحمار، تعجب أبي لأمري وأمي وكل أهل القرية، لم يكن هينا عليّ أن أستعيد نشاطي وأتلف الكتب الصفراء.. أقمتُ في كوخ من طين، كان دافئا في الشتاء وباردا في الصيف، الكوخ لا تدخله العفاريت، سقفه قُد من أعواد جذوع شجر الغابة المجاورة، أمضيت شبابي في التأمل وصيد المواقيت، كانت أيامهم قاحلة إلا من بعض الومضات، وكانت أيامي عذبة رقراقة كالماء، تغمرني السعادة من كل ناحية، ومضات الحب تتشكل، والأكواخ متناثرة.. غايات معلنة وأكثرها مخفِي.. كنتُ أذهبُ إلى المدرسة برغيف خبز وحفنة تمر وأحيانا أكتفي بالخبز أو أتبادل مع صديقي البرني المشمش والتفاح، كان الفقر وكانت السعادة بيتين متجاورين.. الأمطار لا تنقطعُ، فيفرح أغنياء القرية ويزدادون تواضعا على الغلابى وعطفا، وحينما تراهم لا تحسبهم أغنياء، والممتع في الحكاية أنك تعرف من أين أتاهم الغنى، أما اليوم فلصوص الأمس صاروا أثرياء، يشاركون في مخطط مارشال وبناء السدود ومد قنوات الصرف الصحي، وبناء الحانات والمواخير، وفي قريتنا ما كنتُ أسمع أخبار الفسق والخمر والحشيش، ولم أرَ عاهرة، ولم أسمع قصص الحشيش والحشاشين..
اندرست قريتنا ولم يبق منها إلا شجرة زيتون الحاج التهامي وعمود كهرباء بحذاء كوخ العمة ألطاف، وسِلكٌ نحاسي يتدلى من عمود الهاتف القار، وعربة تسقي الناس الماء وتوزع الخبز على الجياع، حدثنا جدي عن تاجر يهودي كان يجمع المال ويرسله إلى تل أبيب، ولما مات التاجر خلّفه ابنه، باع الدكان وأحرق أمتعة وكتبا غريبة وجمع المال، وانتقل إلى باريس ليدرس أنظمة الاقتصاد والتجارة الدولية، وما زال يرسلُ الأموال إلى تل أبيب، ويعبر عن رأيه في كتاب «مكان تحت الشمس».
وعندما انتقلنا إلى المدينة تغيرت أشياء».. سكت التبريزي، طلعت الشمس، أفطر وشرب قهوة ثم انطلق إلى السوق.. أنا أعرف التبريزي، ولم أنم منذ أن أتاني خبر نقله إلى مركز الفرز.. اختار المدير العام تعيين التبريزي ساعي بريد مدينتنا إلى مدينة سوسة، لم يعد قادرا على توزيع الرسائل في يوم واحد.. الناس ساءت أخلاقهم، وضغطت الدنيا عليهم بين كفيها، فمنهم ناجٍ ومنهم ساقط ومنهم بين شد وبسط.. وكان التبريزي يعاني تقلبات الأمزجة وجنون الذئاب التي امتلأت بطونها لحما وسوائل، بعد 2011، لاحظت عليه أمه خمولا وتعبا وغضبا لم تألفه فيه من قبلُ، انتقدته أمه، ولامته كثيرا، كان بإمكانه أن يشتغل في محطة بنزين خاله خيري ويهتم بالوقود والطعام.. أما الآن صار يخلط الرسائل ويضيعها في الطريق.. وينتقم من أصحابها فيمزقها أو يتلفها في الوادي.. يحدثُ ذلك كلما غازلته مومس أو شاكسه حشاش أو خاصمه لقيط.. الرسائل صعبة وثقيلة ومرهقة.. أصحابها أبناء مدينته وزملاء دراسته.. وكان صبيا يكره أصدقاءه ويسيء إليهم، ثم يتوب ويبكي طويلاً.. كان يتقاسم معهم التمر والكعك.. ويعطي لمجته ونقوده لأطفال المدرسة.. كان مُنَعما في جيبه نقود وفي محفظته كراريس وأقلام كثيرة وممحاة كبيرة الحجم يمحو بها الأخطاء، ويأكل الشكولاتة السوداء الثمينة. ولكنه كان يبدو أحيانا طفلاً غامضا يتبرم من الأصدقاء في الزنقة.. ولا يذهبُ معهم إلى الأسواق، ولا إلى لمة الصوفية والمشايخ في زاوية سيدي محرز.. هُم كبروا مضوا في حالهم ونسوا قصص زميلهم التبريزي.
أحبته ابنة إمام الجامع وتأذت في حبه.. عشقت طهرهُ ونقاوة قلبه.. وكرهت تقلب مزاجه.. كان يجلس قربها في قاعة الدرس ويبدو كأنه أباها.. وكانت تسترقُ النظر إليه وتذهل من وقاره.. خرجت ذات مرة في صحبته إلى الأسواق لشراء كراسات وأقلام، فوجد حافظة نقود.. عد الأوراق ستمئة دينار في ذلك الوقت.. قالت له: «يا تبريزي دعنا نقتسم المبلغ» انزعج ونظر إليها نظرة اخترقتها.. طأطأت رأسها.. فتش طيات الحافظة فوجد بطاقة تعريف.. قرأ عنوان صاحبها عَرِفَ محله.. وتوجه إلى دكان من دكاكين الشواشين.. بحث عن الحاج الأمين.. وجده مقرفصا في الباب مهموما حزينا.. مد الحافظة وقال: «أضعت هذه؟».. قفز الرجل قائلا: «يرحم والديك هذه أجرة العُمال وثمن السلعة».. مضت السنوات وتزوجت ابنة إمام الجامع وسافرت مع زوجها إلى بودابست.. وتخرج حلمي في المعهد العالي للتصرف.. واجتاز مناظرة البريد.. لم يحتمل ضيق المكاتب.. فخرج إلى الشوارع.. كان ساعي بريد المدينة يتكشف على رسائلهم ويقرأ بريدهم.. أحصى الأسماء وعدها عدا.. إنه يتظاهر بالإعياء واقتراف الذنوب، ولكنه ذكي ومتقلب المزاج.. تزوج ثلاث نسوة وطلقهن بسرعة.. الطباع لم تتلاءم.. واستطاعت زوجته هُيام، أن تملأ فراغه وتسد حاجته وتُفرح والدته الحاجة بلقيس.. التبريزي جوال ماهرٌ، رغم أنه متقلب المزاج، بل إنه يتظاهر بذلك ليتجنبه الناس.. ساعة يلبسُ برنساً وساعة يلبسُ جاكيت وساعات وأيام يلبسُ كسوة البريد.. يُذْهِبُ بها ظمأه.. ويواري سوأته.
ورثَ التبريزي مالا كثيرا عن والده تاجر الذهب.. استمتعَ وأمتعَ.. وتجول في البرور، لا تعلم أمه أين أودع المال.. أخبرها وزوجته أنه اشترى بيتا في قصور الساف ودكانا في سوق العطارين وقطعة أرض قرب البحر.. يَحِن إلى الكوخ وإلى شاي الصباح وكعك التمر والعسل والتوت والمشمش والتين واللبن وخبز الطابونة.. لقد حدثه والده أن جدهما الأكبر أتى من موريتانيا في قافلة تجارية.. واختار البقاء في السباسب.. امتلك مزرعة وحوانيت.. تقلبت الدنيا فباع جميع الأملاك.. وهبت عليه نسمة السفر.. فارتحل إلى تونس العاصمة.. واستقر قرب جامع الزيتون، وكان يحضر حلقات الذكر وترتيل القرآن في زاوية الشيخ محرز بن خلف، قال ذات ليلة: «شربت من بحر الحُب».. وكانت زوجته ورعة زاهدة واعتادت زيارة ضريح الشيخ أبي دربالة أحمد بن عروس.. قُرب دكان زوجها.. والآن تغيرت الدنيا كعادتها.. ولكن أحلى ما في حلمي أنه يرتل القرآن في خشوع وسالمته الشياطين.. مكثت معه زوجته وكانت تستمتع بقيامه الليل.. رغم تقلب مزاجه، لم يكن يؤذيها ولا يؤذي أبناءه مؤيد وسليمان والعباس.. حنون يأخذهم إلى الأسواق ويغدق عليهم المال.. كان يوفر لوالدته كل ما تطلبه وزيادة فتدعو له بالخير ولأبنائه وزوجته.. استيقظ باكرا واستعد.
*قاص تونسي
*اللوحة للفنان التشكيلي التونسي جلال بن عبد الله