
الياسمينة:
رأسي كجرةِ خمرٍ مُلئتْ دمعاً !
ثقيلٌ ثقيلٌ كأهداب عيوني حالةَ اليقظةِ بعد سُكرٍ طويل.
رأسي " شوالةُ " قشٍ
ممطوطٌ بدون عناية.
وفي تلافيفه أدغالٌ من حكايا عبَّاد الشمسِ.
في رأسي تمتزج صورةُ الوطن بالنميمة
والحذاء بالكرباج
والعلِّيقة بالدرك !
أرفع رأسي فتحاذيه مشنقة
وأُحنيه فيلتئم قبرٌ
وأنا معجزٌ كوطني
وأليفٌ كزوجينِ غادراه في شهر عسلٍ إلى غير رجعة.
لي أحلامٌ بعدد عصافير السماء
وبي ترهاتٌ تُنقذني من أعتى الكوارث
ولكن أجمل أحلامي
ان أكتبَ قصيدةً فيقرأها وطني..
وطني كياسمينة
مغلقٌ ساعةَ الصحو
ويسامرني لحظةَ انشغالي عنه بالسُّكر.
"كـان"
عبدالودود سيف
قبل أن تبزغَ الأرض من ملكوت الخطى
وتصيرُ القصائدُ أسئلة ً
والأغاني هباءْ.
قبل أن ينشبَ الشكُّ أظفارَهُ في رقاب البكاء
وتصير الحناجرُ حشرجةً
والسكوتُ رثاءْ.
قبل أن يُشهرَ الخوفُ خنجره في الهواء
وتلوذ العنادلُ بالصمتِ
والبحرُ يصبح مشروعَ مرثيةٍ, ودعاء.
آنذَاَكْ
كان لي وطنٌ
آنذاك ..
كان لي أصدقاء.
النورس:
لا شيء يشبه موجَ هذا البحر، غيرَ ضفافه الجذلى
وغيرَ بريق قُبلتك، الوحيدةِ، إذْ تُمايل خطوها.. أنَّى مَشيتْ
فاطبعْ بخد البحر أوّل بسمةٍ، وارجعْ إلى حيثُ ابتديتْ
لكأن صوتَ البحر ترنيمُ الحنينِ، إذا انتشى صلّى
ورتّلَ في غموض بهائه
ما تمتم النسرينُ في شفتي، وقال الياسمينْ:
هذا زفيرُ تنهّد الدفلى
ورجعُ الناي – من أقصاه – مُبتلاً برائحة الحنين.
أوشكَتُ أن أبلى
فهيئ يا فمي السكران أجنحةَ النوارسِ، كي أبثّ بنرجسي الفُلاّ
أرى شجناً يسرّحُ في المدى غُصنُاً
ويرسم في الصدى ظلا
كأن الشوقَ يكبرني بعامين
فأستبقُ الزمانَ الكهلَ. مُسرجةٌ شجوني في وساوسها
فما ارتجل الحنينُ قصيدةً، إلا سمعتُ بها هوىً يُتلى
أنا الشجنُ المعبأ في جرار الخطوِ، والفرحُ المخبأُ في رنين القبلة الأولى
أتيتْ !
احداق للرؤيا:
الفص الأول:
لها كلّ هذا التقوس في عَظْم سبابتي
والشرودُ الذي جوّفَ المقلتينْ .
وهذا الحمامُ..
يلملم أطيافَه من فضاء الشرودْ
وينحلُّ من تحت سبابتي
ثم ينهضُ يركضُ في الأفقِ..
مبتعدا.
وكنتُ انتهلتُ , على راحتيها , كحبة قمح ٍ
وزاحمتُ في القاع حَبًّ الحصى
وزاحمتُ في الجوِّ طيرَ العُقاب
ولملمتُ كلَّ خيولي وناري
وكلَّ حمائم قلبي
وأطلعتُها من دمي زهرةً
وأطلقتُها في المدى نجمة
وأسريتُ أبحر ..
في فُلك أحلامها شاردا ..
الفص الثاني:
هنا وطنٌ
كان يسبقني في المثول إليه
ثم ينهلُّ فوق خطاي .
فندخلُ في الحلم ..
نضرب في الحلم
نرسمُ أشجاننا شجراً في العراء
ونصعد في فيئها
حَالمِيْن.
ونضرب في الحلم
نضرب في الحلم حتى مشارف أحداقنا
وحتى ترانا النساءُ المواثلُ في القلبِ
نفتح بوّابة القلبِ
ثم نعانقهنّ ..
ونخرج نضرب في الحلم ثانيةً.
الفص الثالث:
لعينيكِ لون السنابلِ, حين تماوجها الريحُ ,
لكنني ..
أتمعنُ فيها فأشهد جرحاً
وأمْعِنُ فيكِ فيستفني الجرحُ
إن المرارة تجتزني من جذوعي
فأهوي بقاعكِ مشتبكاً في ذهولكِ
أبحث بين القبور الفسيحة عن شاهدٍ
قد يكون بعمق اغترابي
وأبحثُ, أبحثُ
كل الشواهد تومئ :
أن الطريق لعينيكِ يعبر من فتحة الموتِ
سيدتي :
بعد هذا الطواف الطويل تكونين مقبرة!
كيف لي أن أمارس زهويَ
حين يراودني الحلمُ
أو تعتريني القصيدة ؟
*
إني أراكِ فأحشد نفسي لموعد حزن جديدٍ
وأحتارُ: هل أبدأ الزحفَ من مدِّ جرحي
الذي لا يهادنُ؟
أم أبدأ النزف من حدِّ عينيكِ؟
إن البكاء صلاةُ المحاصَرِ
فليسع الدمع نافلتي وفروضي
*
يا جراحي التي لا يضِّمدها الِطيبُ
عيناكِ مقصلة ٌ
وأنا جئْتُ من أذرع الموتِ .. كي أرتديها
عناقاً يمازجني فيك حتى الشفاء
فهلا اتسعتِ قليلا!
نص: في الغربة:
مثلما يحمل الفارسُ خنجرَه
أحمل هواك التعب .
لكن الفارسّ يحمل خِنجره في صدره .
وانا احملك في احشائي الخربة .
إن كان لنا أن نقول الصِدْقَ
نحن جرحان في محارة ٍواحدة .
أنت تقشر أصدافكَ بدون اكتراث
وانا أقشر لحمة احشائي متريثاً .
آه لوكنا معاً !
فأحملك في خطوي .. كما تحمل القشرةُ البذرَة.
الجحيم:
أغادر آخر أسئلتي، وألجُّ إلى توبةٍ روّعتْ كل من سبقوني إلى بابها.
قال لي واقفٌ (ربما حاجبٌ) (كان في الباب):
هل خضتَ، من قبلُ، حرباً ومُتَّ بها؟
خفتُ إن قلتُ: لا، أن أقول: بلى، وتذكرتُ: أن الذين بنوا (كربلاءْ ) سوروها بسنبلة التيه والخيلاء.
تذكّرتُ – أيضاً – بأني أغادرُ أسئلتي، فتذرّعتُ مستغفرا:
بأن الذي كانَ: كانْ
وأوشكتُ أرجع عن غفلتي، وأردّدُ في السر - مستذكرا:
بأن الذي كان منهم، كما لم يكن قـط في.. ( شاهدٍ أثقلته المعاصي فتابْ)
تذكّرتُ أخرى:
بأني ألجُّ إلى توبةٍ. فأعدّتُ السؤال لصاحبه، دونما توبةٍ... أوجوابْ.
كلما أخمدوا في القرار لظى
أوقدوا في الشرار الدخان
* * *
كأني أُساقُ لهاويةٍ، لانهايةَ فيها لمنتحرٍ
ويُساقُ معي من تبقّى على الأرض من شعراءْ
أرى ما ترى النارُ، بعد أنفضاَض مواقدها حفنةً من بقايا تسمى: رمادْ.
أجاهد أن اعتلي شلوّ أيَّ جوادٍ، معادٍ لصهوته من سروج العنادْ
وأعيا...
وأهوي إلى قاعها.
قلتُ: أرجع من حيثُ جئتُ إلى جثّتي،
قبل أن يسطع الصبحُ من شفتي
أرجعُ القهقري....
مقبضاً كفناً. هكذا سأعود!
وهَا... كلُّ أمتعتي !
وأشرتُ إلى قبضتي
قيل كانت بلادا.
*شاعر يمني