
فاروق يوسف*
وربح ظلي الرهان
على جانبي الطريق كان هناك مارة يمشون كالعميان. قلت «ما الذي جاء بي إلى هذا الجسر؟» كان عليّ أن أبقى في البيت ما دمت أشعر بالحزن. لا الأمواج لها صوت ولا زرقة للفضاء ولا أسمع إيقاع قدمي. أنا أمشي كمَن يهذي. لقد قررت أن أمشي وحيدا غير أن فتاة ظلت تمشي إلى جانبي، وهي تكلم ظلا يرافقها. لم التفت إليها. كنا أكثر من شخصين. لرفيقتي شعرها الأشقر ولون بشرتها الوردي وتنورتها القصيرة ورقبتها الطويلة وحذاؤها الأحمر وتأوهات هاتفها. ولي ظلي الذي ينتعل حذاء صيفيا فيما يضع على رأسه قبعة. قلت لنفسي «سنصل معاً إلى منهاتن لنفترق هناك» سمعتها تقول وأنا أعرف أنها لا تكلمني «سأعود بعد ساعة. لقد نسيت الفرن مفتوحا. انتظرني في Sunday to Sunday حين عبرت الجسر وجدته في انتظارها جالسا في المقهى وأمامه عصير كيوي أخضر. ولأنني لم أر الفتاة على الجسر فقد قررت أن أجلس إلى جانب صديقها في انتظارها. ربح ظلي الرهان. كنا أنا وهو اثنين مقابل الفتاة وصديقها.
الممثل المتخفي
لقد رأيته غير مرة في قطار الأنفاق الآتي من محطة جامايكا ولم أتمعن فيه خشية ألا يبادلني الاهتمام. غير أنه حين رآني هذه المرة على الجسر لم يجد مانعا من تبادل الحديث معي. قال «يا فتى لقد استمتعت بعزوفك عن النظر إليّ، على الرغم من أنني أعرف أنك كنت تنظر إليّ»، قلت باستغراب «نعم!» قال «أنا ممثل في مسارح برودواي ولست مجنونا كما يبدو عليّ»، قلت «أنا لا أعرف شيئا عن حياة الممثلين» قال مبتسما بخبث، «ولكنك الآن تمثل». قلت «كيف؟» قال «لأنك أولا عبرت الجسر مشيا ورائي، وثانيا لأنك تصر على عدم النظر إليّ، وثالثا لأنك تريد أن تبقى وحيدا». حين وصلنا إلى نهاية الجسر فتح حقيبته وأخرج منها بطاقتين قدمهما لي وقال مبتسما «أدعوك وصديقتك إلى حضور عرضي المسرحي، الذي لن تراني بعده في قطار الأنفاق».
نساء وفراشات
في الجانب الآخر من الجسر هناك بشر يمشون بمتعة، كما لو أنهم ذاهبون إلى الجنة. قالت لي الساحرة التي سبق أن رأيتها في محطة هالسي «بقدر ما أنت مخطئ هم مخطئون». «توقعت أن تكوني عبقرية في الرياضيات. ولكنك عالمة نفس أيضا»، ضحكت وهي فتاة لا تزال في عز أنوثتها «لو أنك رأيتني وأنا أتسلق أسلاك الجسر لعرفت أنني لا أميل إلى الهذر»، حينها أسرعت في خطوي وتركتها تتسلق أسلاك الجسر مثل قرد. بعد أيام التقيت بها في أحد المعارض الفنية في سوهو وغمزت لي. «أنا مثلك أحب الأعمال الفنية»، قلت لها «أنا أحب الجسر أكثر». قالت «انتظرني في الحانة التي تقع نهاية الشارع»، نسيت فذهبت إلى بيتي فإذا بها تظهر في طريقي وسط جمهور من النسوة المحتفلات. «قلت لي أنك تشتاق إلى العيش»، «قلت لك أنا لم أعش إلا من أجل أن اشتاق»، «ليس هناك فرق. أفواه كل أولئك النسوة تطلق فراشات من أجلك»، ولأني صرت أشم رائحة يهتز لها قلبي وترتجف أجفاني فقد كان عليّ أن أصدقها وأخضع لرغباتها.
ملوية سامراء
خلفي بروكلين وأمامي منهاتن ومن حولي بشر منتشون. يضع البعض منهم قبعات مختلفة على رأسه. الأمريكيون هكذا يلبسون ما يجدونه في طريقهم ويخرجون إلى الشارع، كما لو أنهم سيشاركون في عرض مسرحي ينتمي إلى الكوميديا السوداء. ولأن الجسر كان يهتز تحت أقدامنا كما لو أنه يشاركنا جنوننا فقد صرت أنظر إلى النوارس وهي تصنع خطوطا بيضاء في الفضاء بمتعة مَن يفتح عينيه على يابسة بعد متاهة بحرية. تقول لي فتاة ترتدي قناع كليوباترا «أما زلت مصرا على ارتقاء الهرم لكي تلقي التحية على أبو الهول»؟ قلت لها «لا أفكر إلا في ملوية سامراء» ولحسن حظي أنها اختفت حين اقترب مني حوذي سابق. قال «تلك الفتاة هي أختي التي ضاعت في صحراء سيناء». كنا مجانين نمشي على جسر مجنون. حين وصلت إلى نهاية الجسر وجدتها جالسة على حجر. قالت «كان يكفيك أن تصدق حكاية الحوريات اللواتي رافقنني لتقف على ملوية سامراء».
*شاعر كاتب عراقي